طلال سلمان

نتف من ذكريات شخصية عن طبيعة الهزيمة العربية

لست بمؤرخ، ولست بخبير استراتيجي، ولا أدّعي الفهم في الشؤون العسكرية، لذا سيجيء حديثي عن هزيمة 5 حزيران 1967 شخصيا الى حد ما:
سأروي هنا بعض التجارب المهنية وبعض الاستنتاجات المرتجلة ذات الصلة بالسقوط العربي الشامل في وهدة الهزيمة:
واقعة أولى:
كنت أعمل في مجلة <الحرية> لسان حال حركة القوميين العرب قبيل انفراط عقدها لتتوزع جبهات ومنظمات شتى. لم أكن حزبيا ملتزما، وإن صنفوني صديقا واستعانوا بي كمهني محترف، حتى لا أقول <كخبير أجنبي> حين وقعت الواقعة التي أطلقت عليها تسمية <النكسة> تخفيفا من آثار كلمة <الهزيمة> المدمرة للمعنويات، داخل مصر بداية وسوريا بالاستطراد، ثم على امتداد الوطن العربي مشرقا ومغربا.
التقت أسرة التحرير، الصغيرة عدداً، وإن كانت لها روافد عربية كثيرة، مع مركز ممتاز ـ حتى تلك اللحظة ـ في القاهرة ومع قيادتها الثورية ممثلة بجمال عبد الناصر وأركانه المقربين.
تلاقينا في رد فعل فوري: رفض الهزيمة، انطلاقا من الايمان بالقدرات غير المحدودة للأمة والثقة بجمال عبد الناصر الذي كان يسكن قلوبنا وعقولنا، والذي كان نداؤه الاول، أن <ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الذل والاستعباد> يتردد في وجداننا باعتباره فاتحة كتاب التغيير الذي لا بد سيحملنا الى الانتصار على أعدائنا مجتمعين.
عادت الى أذهاننا صورة العدوان الثلاثي في عام ,1956 وكيف تحققت للأمة وحدتها عبر مقاومتها الباسلة، داخل مصر وفي أنحاء اخرى بعيدة عنها، مشرقا ومغربا، مع دور مميز لسوريا، ودور خطير للبنان إعلاميا.
وعادت معها بالضرورة صورة الموكب المظفر نحو دولة الوحدة بين مصر وسوريا في <الجمهورية العربية المتحدة> والمشاهد الأسطورية للجماهير وهي تؤكد حضورها واستعدادها لمواجهة التحدي، واجتراح المعجزة <الوحدة>.
وبرغم الانتكاسة التي ذهبت بدولة الوحدة، بعد ثلاث سنوات ونصف سنة، فقد ظللنا نرى أن تلك التجربة العظيمة قد أكدت في الشعب القدرة على الإنجاز والتقدم الى أحلامه اذا ما مُكّن من أن يكون سيد قراره.
وبرغم ما كنا نعرفه عن طبيعة النظام في مصر واستغنائه عن الشعب بالقائد الملهم، يغطي بصورته المحببة عيوبه البنيوية القاتلة، آنذاك، فضلاً عن النظام في سوريا الذي لم يكن ليستقر على صورة، ولم يكن موضع ثقة الناس،
برغم ذلك كله لم يكن أحدنا ليتحمل فكرة غياب جمال عبد الناصر، والأخطر إدانته بالهزيمة.
كان عبد الناصر، وهو المسؤول الأول والأخير عن كل شيء في نظر العامة، موضع ثقتنا بعد، خصوصا أننا فصلنا ـ في أذهاننا ـ بينه شخصياً وبين نظامه الذي كنا نسمع الكثير عن طبيعته البوليسية، وعن تخلّفه عن زعيمه الى حدّ يقارب العصيان.
ولقد انعكست مشاعرنا الشخصية هذه جميعا في الغلاف الذي اخترناه لمجلة <الحرية>… وأذكر أنني أسهمت في وضع عنوان مستفز كان القصد منه التخفيف من وقع كلمة <الهزيمة>، ورفع معنويات جمهور <الحرية> والحركة والقوميين والعرب جميعا عبرها.
كان العنوان: كلا لم يخطئ عبد الناصر ولم يُهزم العرب بل هي مواجهة مفتوحة مع اسرائيل والادارة الاميركية.
وبطبيعة الحال، فقد بات صعباً، في ما بعد، التنصل من المسؤولية عن هذا العنوان الذي أملاه الحرص على كرامة الأمة التي كنا، وما نزال نراها جديرة بتحقيق الانتصار لو أنها ملكت إرادتها وأمكنها أن تختار قياداتها الكفوءة والمؤمنة بالشعب كمصدر للسلطة وكصانع للانتصار بقدراته غير المحدودة في وجه أي عدو، مهما بلغ عتوه واعتداده بقوته عسكرياً واقتصادياً بفضل تحالفاته الدولية.
واقعة ثانية:
لا بأس من شيء من الاستطراد بحكايات من الماضي قد تفسر بعض مواجع الحاضر:
في 5 حزيران ,1968 وكنت قد تركت مجلة <الحرية> أو أنها تركتني بعد ما حدث للحركة، ذهبت الى القاهرة موفدا من مجلة <الحوادث>، لأتلمس آثار التحولات التي جرت وتجري في مصر بعد سنة من الهزيمة.
كنت أفترض أني أعرف القاهرة جيدا، وبعض أنحاء مصر خارجها.
فلقد ربطتني الصداقة أو طبيعة المهنة بالعديد من النخب الثقافية والفنية، كما عرفت العامة من بسطاء الناس. عرفت كتّابا ومؤرخين وبحاثة وأساتذة جامعيين، عرفت قضاة وأهل رأي، فضلا عن عشرات من الصحافيين، بينهم مجموعة من المميزين في معارفهم أو في قدرتهم على التحليل. عرفت ضباطا ومجندين، كان بعضهم ممن اندفع فور تخرجه الى الجبهة، تتقدمه حماسته وتلحق به دعوات أمه وأبيه بأن يكتب له النصر ورد الاعتبار الى مصر التي ثلم شرفها بهزيمة لا تستحقها في 5 حزيران 1967.
عرفت مهندسين وأطباء وشعراء وأدباء من الشبان الذين كانوا يعودون الى أهلهم في إجازات قصيرة، ليرجعوا من بعدها الى كمائنهم في كثبان الرمال، طبيعية ومصطنعة، ينتظرون ساعة الصفر لكي يردوا لمصر كرامتها مع هويتها العربية وعنوانها محفور على شغاف القلب: فلسطين.
وعرفت يساريين بل شيوعيين سابقين تابوا أو <أتيبوا> فصاروا أركانا في <التنظيم الطليعي> الذي أريد منه أن يكون <حزب عبد الناصر> في وجه العسكريتاريا والبيروقراطية والترهل في <الاتحاد الاشتراكي> الذي كان أشبه بوكالة من غير بواب، على ما يقول المصريون…
وأفترض أنني قد عرفت سوريا جيدا، في الحقبة نفسها، ومشيت مع غيري على حطام الطائرات الحربية الاسرائيلية في شوارع دمشق، خلال حرب الاستنزاف، التي كانت تمهيدا بالنار لحرب تشرين (6 اكتوبر ـ العاشر من رمضان 1973).
ولقد زرت كلاً من الجبهتين، بإذن خاص، والتقيت ضباطا وجنوداً وهبوا أرواحهم لوطنهم بغير منّة، كانوا يصبرون في انتظار ساعة الصفر، وقد أمضّهم الانتظار، وكانوا يتشوقون لتأكيد القدرة، لأول مرة، بعدما اطمأنوا الى كفاءة السلاح واكتمال التدريب… والتعرف الى العدو عبر النظر في عينيه، وليس عبر الأساطير المتوارثة عن قدراته وإمكاناته التي تتهاطل عليه من كل أنحاء العالم، بغير حساب.
وفي حين كنا ننتظر <ساعة الصفر> لمعركة التحرير، جاءنا الخبر الصاعق الذي لم يكن يتوقعه أحد…
كان الليل قد أرخى سواده على بيروت حين أخذت تتردد في جنباتها أصداء تلاوات من القرآن الكريم عشية ذلك الاثنين الواقع فيه 28 أيلول ,1970 ولأمر ما رأى فيها الناس نذراً بما يسوؤهم… قبل أن تتفجر الأحزان طوفانا ملأ الشوارع بالرجال والنساء والأطفال، يسيرون هائمين على وجوههم لا يعرفون لأنفسهم وجهة، نظراتهم لا تستقر على مكان، وأحاديثهم جمل مقطعة بالزفرات والتنهدات الحرى وأشباح القلق والخوف من الآتي تسدّ عليهم الطرق.
لم يصدق أحد الخبر: ان جمال عبد الناصر قد مات، فور رجوعه من وداع آخر ضيوفه في القمة العربية الطارئة التي عقدها لوقف الحرب الظالمة في الأردن بين النظام الملكي والثورة الفلسطينية.
لم ينم أحد، ومع الصباح كانت الأمة جميعاً تستشعر حالة من اليتم، على امتداد مساحة الوطن الكبير من طنجة حتى صنعاء… خرجت كل بلدة وكل حي في مدينة في مسيرة حزن لتشيع جنازة رمزية للأحلام والأماني ومشاعر الاطمئنان الى الغد.
بكى الرجال كالأطفال، وأعولت النساء، وقد غطست في أثواب الحداد. عاش الجميع لوعة الفقد، وغرقوا في إحساسهم باليتم والضياع. فاضت الجماهير عن الساحات والشوارع والطرق، وسار أهالي القرى خلف النعوش الرمزية التي رفعوها ليتلاقوا بأحزانهم في القصبات والمدن القريبة. كان الخوف من الغد هو السيد المطلق في تلك اللحظة. كان الكل يخاف على مصر، يخاف أن يفقدها وأن تضيع عن أهدافها. كان الجميع يدرك أنهم إن خسروا مصر فقد خسروا مستقبلهم.
لم يكن من رحل ذلك المساء بطل الهزيمة.
لا يمكن أن يخطئ وجدان الأمة… خصوصاً أن رجلها قد سقط في الميدان. لم يوقّع صك الاستسلام، ولم يفتح أبواب مصر لأعدائها ليحتلوها تحت راية الصلح المنفرد فيشطبوا دورها الذي لا يعوّضها فيه غيرها، ويخرجوها من قلب أمتها التي لا تجد في غيرها البديل المرجو الذي تشتد الحاجة إليه.
وصورة ثانية:
عند ظهيرة يوم الثلاثاء الواقع فيه السادس من تشرين الأول، أكتوبر، ,1981 ولمناسبة الذكرى الثامنة لحرب العبور ـ رمضان ـ اقتحم العرض العسكري الفخم المقام على أرض المعارض في مدينة نصر في ظاهر القاهرة، ثلة من الجنود كان بينهم ـ على الأرجح ـ أكثر من واحد ممن عبروا القناة لطرد المحتل الإسرائيلي وتطهير أرض مصر، قبل ثماني سنوات بالتمام.
قفزوا من الشاحنات العسكرية المشاركة في العرض وتقدموا بسلاحهم وبوجوههم مكشوفة نحو المنصة الرئاسية، ووجهوا رصاص رشاشاتهم الى صدر من اعتبروه المسؤول عن هزيمتهم، هزيمتنا، عن اغتيال حقنا في يومنا وغد أطفالنا.
ظلوا يطلقون النار حتى لم يعد في بنادقهم رصاص، واطمأنوا الى أن مهمتهم قد أنجزت.
وشيع بطل الصلح المنفرد الذي خرق المحظور، وارتكب الخطيئة المميتة في موكب صامت، تقدمه الشركاء من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، بينما كانت مصر تقبع مطوية على أحزانها خلف الشريط الشائك للمعاهدة التي سجنتها بعيداً من هويتها ومن تاريخها ومن أهلها، لا سيما شعب فلسطين، فاتحة الأبواب للحرب الأهلية بديلاً من حركات التحرر والتحرير.
ومع الرفض المبدئي المطلق للاغتيال السياسي، إلا أن المقارنة بين النهايتين المفجعتين لكل من جمال عبد الناصر، وأنور السادات، تكفي لإثبات بديهية بسيطة: أن الشعب يعرف بتجربته المباشرة، وبضميره الذي لا يخطئ، وبقلبه، ومن دون حاجة الى من يعرفه: من الذي صمد ورفض الاستسلام وعاد الى القتال بعد أيام من وقوع الكارثة العسكرية، وقد ازداد إصراراً على إصلاح الأخطاء الجسيمة في نظامه، وأهمها الافتراض أن القائد ومهما بلغت عبقريته يمكن أن يغني عن شعبه، ويمكنه أن يعوض بشخصه عن حقوق شعبه في أن يكون صاحب القرار، في السلم كما في الحرب، وان المقهور في حريته وفي كرامته لا يمكن أن يخوض معركة التحرير.
… ثم من الذي صنع الهزيمة التي لا قيامة بعدها إلا بثورة جديدة عمادها الإنسان الحر، المتمتع بحقوقه في وطنه، وأخطرها حقه في أن تكون له هويته غير القابلة للاستبدال، وفي أن يكون صاحب القرار في تحديد العدو وفي إعلان الحرب عليه في الموعد الذي تتوافر فيه ضمانات النصر، في الداخل كما في المحيط العربي، مع حسن القراءة للظروف الدولية ومدى ملاءمتها للقرار الخطير.
بمثل هذه القراءة المتعجلة التي ربما حكمها شيء من احترام الذات، ماضياً وحاضراً، فإنني أصل الى خلاصة محددة: لقد ارتكب نظام جمال عبد الناصر خطايا وأخطاء عديدة وخطيرة، ولعل جماهيريته العظيمة قد أغرته بأن يستغني بنفسه عن شعبه، مفترضاً أنه يستطيع أن ينوب عنه لشدة إيمانه به.
لكنه ظل مقاتلاً في الميدان حتى النفس الأخير.
ومن الظلم أن يحرم حقه من الفضل في إعادة تأهيل الجيش المصري طلباً لرفض الهزيمة وتعويضها في معركة لاحقة.
أما أنور السادات فقد استخدم عدة النصر المحتمل لإسقاط مصر بهزيمة لا تستحقها، واستسلام في معاهدة الصلح المنفرد، أخرجها من هويتها ومن تاريخها وحتى من جغرافيتها، فباتت أضعف من أن تجابه العدو الإسرائيلي أو ترفض شروطاً مذلة للمهيمن الأميركي.
فلنحاسب عبد الناصر على قصوره،
ولنحاسب أنور السادات على خطيئته المميتة،
ولنفكر كيف نخرج من ليل الهزيمة الذي نستدرج عبر ظلامه الدامس إلى مقاتلة الذات بدلاً من مقاتلة العدو.

الإسكندر الحزين وقصائده المشفرة
يتملكني شعور بالغبطة، حتى لا أقول الحسد، وأنا أقرأ دواوين تكفي لإصدارها بضعة أخيلة تستعيدها فتنظمها صوراً مقطعة وأقلاما مرهفة لا تطيق أن تثقل على قارئها بحضورها الكثيف، عبر مقالات مطولة أو قصائد تشابه المعلقات.
قليل من الكلمات تكفي لحمل أعباء الأجساد ورغبتها التي لا تحد، وليس مهماً أن ينتظم السياق، بل المهم أن يشف المبنى بالمعنى فيدخل القارئ إلى بيت السر في النغم السحري حيث تنتظر النساء مدعويهن إلى العشاء.
ولأن إسكندر حبش زميلي، ولأني أقرأ حزنه المعتق في عينيه شبه المغمضتين دائماً، ولأنني أسمع تذمره الذي لا يجهر به خجلاً من عدم القدرة على تبريره، فقد كنت أتابع قصائده محاولاً أن أفهم منها تلك الأسرار العميقة التي لا يفك ألغازها النثر ولا بد من سحرها شعراً كي تصلنا.
من ديوانه الأخير <الذين غادروا> لا نستطيع أن نعرف من هم الذين غادروا، ولا لماذا ولا الى أين، فذلك يتطلب دواوين أخرى… ولكننا نعرف أن إسكندر نفسه قد غادر المغادرين ثم وقف فاستوقف وبكى فاستبكى، فكانت هذه القصائد المقطعة: <الركبة التي تغرق الأسماك/ طردتني السنوات/ لم أغلق الباب خلفي/ الشقاء عصفور/ ارمِ هذا الألم. ثمة ألم آخر لم نكتبه بعد. لا سبب لتأخذي الجملة من سر الوجه، ابتسامة واحدة لأجمع الحبر حتى لا تأخذي الجملة من بياض الجسد/ الأزهار أرخت ندمها/ اترك نوافذي مفتوحة/ بعض نعاس/ بعض من لغة منسية/ تأخذين عيني/ آخذ صوتك/ تنظرين بشوق/ تغادرني حيوات كثيرة/ أنت في أول الليل/ لم أغلق هذه الليلة بعد/ هو النهد الذي يرسم الطريق/ هو الألم يأتي من عمق الليل/ ليست الحياة سوى ما نفتقده/ ظلك أم عتمة الليل/ ضوء ليس في الحسبان>.
لن أقتبس أكثر حتى لا أكون قد أعدت نشر الديوان الجديد للإسكندر الحزين.
ربما بعد القراءة نكتشف سر الحزن الذي لا تطلقه العينان دمعاً فيطلقه القلم قصائد مشفرة.

من أقوال نسمة
قال لي <نسمة> الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كلما صادفت في طريقي عاشقين يسيران متهاديين وأيديهما متشابكة، أشفقت عليهما… ليس للحب الذي نحفظ قصائده الرقيقة والمنعشة للروح ملاذاً يأوي إليه. والرصيف لا يصلح عشاً للحب وإن أفاد لإشهاره وتحمّل نتائج عدواه.

Exit mobile version