طلال سلمان

ميلاده الثورة

هو الآن مثل مصر: كلما ابتعد عنك ازداد اقتراباً منك، حتى إذا غيبه الأفق تماماً وصل حضوره في داخلك إلى ذروته.

وهو الآن مثل ضميرك: ينبهك، يحذرك، يطالبك وقد يزجرك ليمنعك من التورط في ما لا نفع فيه لنفسك أو لأمتك،

… وأحياناً تلتفت أنت إليه بالعتاب أو باللوم أو بمر الشكوى لأنه قصر في كذا من الأمور، وأخطأ في كذا، وأغفل أو ن سيأو أهمل، ولأنه تخلى عنك في لحظة حرجة، وتركك وحيداً تقاتل الأعداء الكثر، محملاً إياك عبئاً جديداً ثقيلاً يتمثل في الفراغ الذي خلفه في موقع القيادة.

هو فيك، الآن، هو بعض منك، هو أنت بشكل ما. هو كل هؤلاء الناس من حولك، بعيوبهم ونواقصهم وتقصيراتهم وعجزهم عن التصرف بعده، وأيضاً بتصميمهم على تجديد الثورة واستيلادها  كرة أخرى.

وهو خارجك: يتحداك، يستفزك، يحرضك، يطالبك ويتمنى عليك أن تتخطاه، أن تتجاوزه إلى حيث كان يحلم بأن يوصلك ويصل معك وبك.

لم يعد قائدك، الآن. إنه جنديك. عاد مقاتلاً مرة أخرى، وعليك أن تقبل التحدي وتثبت جدارتك بالقيادة… فشرط حياتك بعده أن تكون مؤهلاً لأن تقود ذاتك والآخرين.

هل تقدر على قيادة الرمز، وإدارة معارك كبيرة بالأفكار والمبادئ والشعارات والانتماء الأصيل إلى أمة أصيلة؟

هل تقدر على أن تحاسبه من موقع الحب، وعلى أن تلغيه بتأكيد حلوله فيك، وعلى أن تتجاوزه بإثبات إنك الابن والحفيد وناصر المنتمي إلى المستقبل لأنه أبو الماضي والمسؤول عنه؟..

هل تستطيع أن تكون هو الذي كان، وهو الذي يجب أن يستمر، وهو الذي كان أن ينبغي أن يكون؟..

ذلك هو تحديه اليومي لك. ولقد يستثيرك مرات فتسائله محنقاً: وماذا ومن تركت لي؟ أيوازي هذا الذي بقي العمر الذي تقضي في النضال تحت رايتك من أجل الشعارات التي رفعت، والمبادئ التي بها ناديت؟

ومن حقك أن تحاسبه، على أنه فيك ومنك وبعض من تاريخك. أليس من واجبك أن تمارس النقد الذاتي؟

لكن المطلوب أكثر: أن تعوض ما قصر فيه، وأن تصحح مواضع الخطأ، وأن تكافح لحماية الإنجاز الذي يبقى، بعد كل حساب، كبيراً، وأن ترسم بهذا الإنجاز طريقك إلى مستقبلك المنشود.

هو الآن في موقع المطالب.  مع كل صباح يطالعك وجهه في المرآة، من خلال ملامحك، ليقول لك: لا تقف خلفي،  ولا تقف عندي، ولا تقف ضدي! تقدم! تقدم! لا تحولني إلى أسطورة تتلهى بروايتها عن أداء واجبك، ولا تجعلني مشجباً تعلق عليه أخطاءك وأخطاء المئة وأربعين مليون عربي، وترسبات عهود القهر الاستعماري الطويل! اعمل! تحرك! بادر! تقدم، تقدم، تقدم!

عمره الآن سبعة وخمسون عاماً،

لا تطفئ له شمعة، ولا تشعل أمام صورته شمعة جديدة،

هو الآن جنين في رحم مصر، في رحم الأمة، يتحرك فيتحركها، ويكتسب من حركتها ملامح جديدة…

لكنك لن تعرفه، متى جاء، إذا كنت جالساً تنتظره في المقهى،

ولا هو سيعرفك.

فجمال عبد الناصر الجديد سيولد من أصلاب أولئك المصارعين الحياة لتغيير الحياة، والباذلين العرق والدم والدمع من أجل الميلاد الجديد للثورة الجديدة… ليس المكملة فقط وإنما الكاملة أيضاً.

وبقدر ما تعمل لتقريب يوم الثورة الجديدة والمجددة يعود إليك جمال عبد الناصر وتعود إليه.

فعبد الناصر، الآن، ليس الثورة التي كانت، وإنما يكون هو الثورة الآتية أو لا يكون مطلقاً.

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 15 كانون الثاني (يناير) 1975

Exit mobile version