طلال سلمان

اللعبة الكبيرة وصفتها مهزلة تاريخية

قبل سبعين عاما لم تكن معظم الأقطار العربية قد حصلت على استقلالها من دول الغرب الاستعمارية، حتى الدول السبع المستقلة لم تكن كلها كاملة الاستقلال أو مكتملة المؤسسات أو محصنة الدفاعات. نعم كانت هناك جامعة للدول السبع أخذت على عاتقها السعي في حدود الممكن والمتاح لتشجيع الشعوب العربية الخاضعة لاحتلال وناقصة الإرادة للتخلص من الاستعمار. الدور البسيط لجامعة الدول العربية كان بالفعل محرضا ونافعا في حالات غير قليلة، أقربها إلى الذهن أقطار المغرب العربي وإمارات منطقة الخليج، وبائسا في حالة واحدة على الأقل، حالة فلسطين.


انتحيت جانبا بعيدا عن ضوضاء المكان وفي يدي ورقتان، ورقة منهما تختص بوثيقة رسمية والورقة الثانية تختص بوثيقة على وشك أن تكشف عن أصولها. توقعت أن تدفع قراءة الورقة الأولى إلى ملل وضيق في التنفس. حذرني من الإصابة بهما من وافاني بها. أكد لي أنها لا تختلف كثيرا عن وثائق مماثلة شاركت أنا نفسي في صياغتها عندما كنت أعمل بالجامعة العربية. كنا عند الصياغة نبحث عن كلمات وحروف تشكل في مجموعها أدنى ما يمكن أن يتدنى إليه موقف جماعي يتفق على مضمونه السادة مندوبو الدول الأعضاء أو الوزراء ومساعدوهم. هذا الموقف الجماعي في مضمونه ونصه لا يقول شيئا. قد يلزم دولة باتخاذ إجراء يكلفها مالا ولكنه لا يهدد من لا يدفع بعقاب من أي نوع. جرت عادة الدول الأعضاء في الجامعة أن توافق بالإجماع على القرار. لن يفتش أحد في ضميرها ولن يتابعها أحد إذا لم تنفذ. وهي في غالب الأحوال لن تنفذ حتى لو تابعتها الجامعة.


يشير البيان الختامي الصادر عن اجتماع وزراء المالية العرب الطارئ في الدول الأعضاء بشأن تفعيل شبكة الأمان المالية لدولة فلسطين أن الاجتماع عقد بناء على دعوة من الأمين العام، وأن الاجتماع عقد بالفعل يوم 23 يونيو 2019 وذلك في إطار متابعة تنفيذ قرار مجلس الجامعة على مستوى قمة القدس بالظهران في 2018 وقرار قمة تونس في 2019… بشأن تفعيل شبكة الأمان لدولة فلسطين التي اقرتها قمة بغداد في عام 2012 لمواجهة الأزمة المالية التي تعانيها جراء ما تقوم به اسرائيل، وبعد الاستماع إلى كلمات معالي وزراء المالية، واستنادا إلى قرارات مجلس الجامعة المذكورة آنفا وآخذا بالاعتبار المكانة المركزية للقضية الفلسطينية تم اقرار ما يلي:

1 ـ تأكيد الدعم العربي
2 ـ إدانة القرصنة الإسرائيلية …
3 ـ مواصلة التزام الدول العربية بقرارات… الخاصة بتفعيل شبكة أمان بمبلغ مائة مليون دولار شهريا بحسب أنصبة الدول.


القيت بهذه الورقة التافهة جانبا ليتسنى لي الانفراد بالورقة الثانية. الورقة الثانية ليست رسمية ولكنها تحظى باهتمام هائل حتى منذ كانت مجموعة أفكار جاري تجميعها. سوف يشهد التاريخ بأن المقارنة بين الورقتين عملا مجحفا. الورقة الأولى أصدرتها الجامعة العربية تذكر فيها بقرار صادر عن قمة عربية قبل سبعة أعوام ولم ينفذه وزراء المالية العرب. لم أسمع أن وزيرا عربيا عوقب لأنه لم يسدد حصة بلده في شبكة الأمان على امتداد سبع سنوات. أما الورقة الثانية فتحكي عن وعود قطعها على نفسه شاب يبدو أنه جاء خصيصا وبغرض محدد إلى البيت الأبيض برفقة صهره الرئيس دونالد ترامب. قررهذا الشاب ومعه اثنان على الأقل من كبار الأثرياء اليهود أن وجود ترامب رئيسا يمكن أن يساعد في إزالة أكثر من نصف العقبات التي تقف في وجه تصفية قضية الفلسطينيين. النصف يزيله ترامب والنصف الآخر تزيله دول عربية بعينها. من أجل هذه الدول دعا إلى عقد مؤتمر في المنامة يحضره مندوبون يمثلون وزراء مالية هذه الدول أو الوزراء أنفسهم. ومثل أي مقاول وهو وزملاؤه الأثرياء المتحمسون لتصفية فلسطين لهم رصيد كبير في تهويد أجزاء واسعة من الضفة الغربية والقدس الشرقية، أدرَك جيدا أن وضع اليد على الأرض البداية المثلى لعمليات الاستيطان والتوسع فيها. لم أسمع أن دولة عربية احتجت على تصرفات وتصريحات سفير أمريكا في اسرائيل.


الورقة الثانية التي في يدي والتي هي ورقة كوشنر ما زالت تخضع للتغيير. ولكن ما جاء فيها ويحيط بها ويقطر منها ينذر بالشر الوخيم. الشاب، وبكل بساطة، أوحى إلى ترامب بضرورة اتخاذ قرارات مخالفة للقانون الدولي وخارجة عن مألوف السياسة الخارجية الأمريكية. أمر بنقل السفارة إلى القدس وأغلق مكاتب فلسطين في واشنطن وألغى دور تقليدي للقنصلية الأمريكية في القدس وأوقف مساهمة أمريكا في ميزانية الأونروا وسوف يعلن الضفة الغربية أرضا إسرائيلية والفلسطينيين ضيوفا مؤقتين على إسرائيل. هذه الإجراءات كانت ضرورية للتمهيد لعرض صفقة رخيصة على العرب. معونات تافهة وقروض ضخمة من خزائن ومصادر نفطية مقابل مرونة فائقة في التحركات السكانية الواسعة نحو أراضي في دول عربية ظروفها المالية صعبة.


لسنا في أفضل حالاتنا. لن تتقدم دول عربية لتخليص الفلسطينيين من ألعن عملية ابتزاز بشري في العصر الحديث. حتى الآن لا أستطيع أن أفهم منطق أحفاد المحرقة النازية وهم يفعلون بشعب فلسطين ما يفعلون. حتى الآن لا أرى مبررا لأن يترافق تسوية الصراع العربي الإسرائيلي ونصف العالم العربي واقع تحت تهديد خارجي لا يد لنا فيه أو تحت إرهاب ممويل من مصادر تثير الشكوك في مسلمات عديدة.


أسأنا التصرف في عديد من القضايا ومنها قضايا التكامل والدفاع المشترك. العالم تغير عما كان عليه منذ سبعين عاما ونحن لم نتغير. صحيح حاولنا. بذلنا الجهد ولكن بدون تخطيط فكان الهدر مثلثا، هدر في البشر وهدر في الوقت وهدر في الإمكانات. أسمع أن الكوريين يفاوضون ترامب وهم يرددون كلمة الكرامة، أسمع الصينيين وأراقبهم وأسمع الهنود وأتابعهم وأشاهد فنزويلا تواجه ببطولة غرور وتخبط الدولة الأعظم، كلهم وغيرهم يتمسكون بما تبقى لهم من كبرياء وكرامة. كلام غير أجوف. فقط تصوروا معي المنطقة العربية بدولها الأكثر من عشرين وقد سويت القضايا وحل السلام على قواعد ليس بينها الكرامة. تصوروا معى حالنا لو هيمن السيد كوشنر وفرض علينا وعلى أولادنا وأحفادنا قواعد صفقة القرن وأخلاقياتها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version