طلال سلمان

من يقوى على الفساد؟ إنه الأقوى

شعب لبنان فذ. شعب يشبه دون كيشوت. سلالة كاملة من محاربي طواحين الهواء. باسل في الخطابة والقول. سينازل الفساد يوماً ما او سنة ما او قرنا ما. لا يتعب من تكرار آفة الادعاء. يظن نفسه منذوراً لمهمة نبيلة، تشبه المستحيل.

شعب لبنان عظيم. يعرف أن الفساد دينه المعبود. ولا دين سواه، ومع ذلك، لا يكفون عن اهانة شجاعتهم عندما يرصفون كلامهم ويعلنون “محاربة الفساد”. كذابون جداً. لم يحصل أن تم القبض على فاسد واحد. الفساد متعالٍ وفعَّال. ولكنه ليس المرتكب. الفاسدون بيننا ومعروفون بالأسماء والمواقع والمبالغ والحشود التي تنصرهم، انهم منكبون على وليمة “الدولة” الرخوة، و”الدولة” دولتهم وحدهم. لا يتركون لفرسان “الطواحين” غير الفتات والغبار.

كذابون، بالسلالة والطائفة. يعرفون جيداً أن لبنان. كيان دعامته الفساد. من دونه يموت الناس عوزاً وجوعاً، ولا ينجو منهم غير المحظيين والمحظيات. الفساد مصان ومحصَّن وحرزان. ومحاربة الفساد خيانة، لأن الفساد والطائفية، ثديان يرضع منهما لبنان. تفقد السياسة مضمونها وفعاليتها من دون تدوير الفساد وتداوله وفق مراتب عليا ووسطى ودنيا. الدولة كلها، بقواها كافة، مدينة لهبة الفساد. من دونه لا دولة ولا كيان ولا اقتصاد.

لنفترض أن ما جاء اعلاه خطأ. أو حتى كفر. فلنسأل لماذا هذا الصراخ حول محاربة الفساد؟ لماذا لم تبدأ معركة تحرير لبنان من ظلم الفساد؟ لماذا تأخرت المعركة، ومضت عهود رئاسية كثيرة من دون مساءلة الفاسدين؟ منذ تأليف الحكومة الثانية برئاسة عبد الحميد كرامي، والفساد يستوطن الوزارات والدوائر والمؤسسات والمجالس والرئاسات. يومها، ارتأى كرامي أن تأخذ السلطة قراراً بحل الادارة كلها والمؤسسات واعادة بنائها على قواعد الكفاءة والنظافة و… تأمله الشيخ بشاره الخوري ملياً ورفض هذا الاقتراح الهمايوني. فضل دولة بفساد، على دولة بلا فساد. من لا يتذكر السلطان سليم، وعصابات المال التي وضعت يدها على اراض وعقارات في ساحة البرج وصولاً إلى المرفأ وارض المطار. لبنان والفساد توأمان.

من لم يسمع بزلزال العام 56؟ إلى أين ذهبت اموال المنكوبين؟ كان فؤاد شهاب قديساً زاهداً بالمال. مات مخلفاً بعده ارملة بلا مؤونة وماتت على شفير الفاقة. انما، كان وحده كذلك. أنشأ اجهزة رقابة ومحاسبة وخدمة مدنية. اين هي الآن؟ الشكوى منها تبز الشكوى العارمة من القضاء الذي…انما، المكتب الثاني ما كان معصوماً من الاثراء.

مسكين الرئيس شارل الحلو. عندما أجرى تطهيراً في اجهزة الدولة، نصحه الأمن الخاص بالرئاسة، بعدم الذهاب إلى الكنيسة كل أحد لحضور القداس. خافوا عليه من الاغتيال. إن للفساد دولة أقوى من الدولة، وأصبح راهنا هو الدولة.

لا فائدة من استعادة الفساد الحربي إبان الحروب اللبنانية. يكفي أن الحرب القذرة، التي خيضت بأياد قذرة، لغايات قذرة، قد خرّجت أمراء حرب صاروا قادة في السياسة والمال والمذاهب. أمراء الحرب ليسوا فقراء. الفقراء، مصيرهم كان القتل والتهجير والرحيل والبكاء، وعفا الله عما مضى.

لا فائدة البتة من تذكار العهود، إبان الوصاية السورية. وصاية قائمة على الاشتراك في مائدة الفساد، على مساحة 10452 كلم2.

للفائدة، ولعدم الجدوى أيضاً، أن ندلل على آليات الحماية التي يلجأ اليها الفاسدون. الفساد هو في إشراك السلطة بالطائفية، وبالمال، وبالمرجعيات الدينية ـ العقارية، وبالإدارة، وتسييج كل ذلك لحصانة الإمتناع القضائي.

هل هذا مفهوم؟. مفاصل الدولة بين ايادي الفاسدين حتى أدق التفاصيل. والفساد مطمئن الى ديمومته لأنه الأقوى، ومدعوم دعماً مبرماً من القواعد “الشعبية” الطائفية… هذا الفساد جرى انتخابه فأعطى الثقة، للمشاركة في الحصص. والمحاصصة هي إحدى الوجوه الشرعية للفساد، كذلك تأليف الحكومات، وتنفيذ المشاريع (الصفقات) وإدارة البلاد (الأموال).

وعليه، لماذا لا يكف هذا الشعب عن إعلان حرب لن يخوضها ضد الفساد؟ لماذا عليه أن يصدق الرؤساء والوزراء والنواب والأجهزة في إعلانهم الحرب على الفساد؟ هل من المنطق أن يجلد الجلاد جلده، أو يضع أنشوطه الإعدام حول عنقه؟ فيا أيها الشعب الفذ، إنك تشبه دون كيشوت. طواحين الفساد طويلة على رقبتك. لم يبق أمامك سوى أن تبحث عن وسيلة أخرى، لتحسين الفساد وإدارته وتعميمه. أما من يسأل عن التنمية فليغض الطرف بسرعة… البديل عن التنمية في البقاع الشمالي. هو زراعة الحشيشة. فإياكم والإصلاح. عاقروا الانتظار، لعل نكبة الليرة المتوقعة، ربما، (ليت لا) تسقط التجربة اللبنانية الفذة وتسقط معها أعمدتها.

 

 

Exit mobile version