طلال سلمان

من مِثلُ “السفير”.. غداً؟

لم أصدق أن “السفير” ستتنازل عن عمرها. ماضيها لا يشي بأن زمنها يتنازل عنها. تراثها يؤكد انها تتوالد… ومرت الأيام بلا استراحة. المحاربون فيها لم تجف لغتهم. الا انها كانت تشكو، ثم تعود إلى حمل الصخرة وتسلق الحياة، بجدارة القضية. الصخرة مستقرة. القعر يؤبن سيزيف.

…لكن عمرها تنازل عنها. عمرها تعب منها. هناك، في أمكنة ما، حاجة إلى ولادتها اليومية. هناك، في منعطفات ما، حاجة إلى اطلالتها الصباحية، هناك، عند اناس ما، نقاشات وشهود. هناك، في اوطان ما، انتظارات لما ستحمله “المانشيت” وما تيسر من سردٍ وحوار ومقالات… لا أحد يشفع لـ”السفير” أن تستقيل. فماذا نفعل بعدها، كل صباح؟ يا سيدتي، مكانك الفارغ، لم يملأه غير الوداع. مكانك منكسر على اسمك وعلى حسرة غيابك. امانتك دين مستدام. بعدكِ، لا فرق بين صباح وسماء. فقط، لأن “السفير”، سافرت إلى الغياب.

أهذا ما ينتظر الصحافة؟ أغدا يُفرغ مكان آخر؟ من يملأ هذه الفراغات؟ الضجيج والصخب ومنابر الصراخ تشوش الفهم وتَعَقُّل الأمور. الانفعالات المفتعلة والمسعورة لا تسمح بنقاش يحترم كلمة الآخرين. فوضى مثيرة للغرائز تلح على احتلال الزمن السياسي. والسياسة باتت رخوة جداً. تلفظ بدل الكلام لعاباً ورذاذ شظايا لفساد يتعافى بعد كل “مصالحة” او “تفاهم” او “اتفاق” كل هذا كان. ولكن “السفير” ايضاً كانت تحمل المسطرة وتكتب على السطر. هي راحت و”السياسة” تلقي بتفاهاتها، فتاة مما تبقى من منصات على هوى طوائفها. كان يلزم أن يعيش الورق سنوات لردع الكلام الهباء.

افتقدها كثيرون. عابوا عليها غيابها، اذ، كيف تغيب في الرابعة والاربعين؟ حدث ذلك. ما كان ممكناً أن تستشهد بغير هذه الطريقة. تلقي تحية الوداع. تطفئ الاضواء. تمحو الكلمات. يتبدد الأحبة. تصير الصحيفة ذاكرة. الحسرة جامعة. والخوف على سواها يوازي المجازفة حتى الرمق الاخير.

العصر القادم ليس بحاجة إلى خبر صحفي. وسائل التواصل تخترع الالغاء. لا ضرورة للورق. الصحفي في حالة فقر واستغناء. نظرية كل مواطن مخبر صحفي، كذبة. نادرة الصدقية وفاقد للنقد. الخبر السريع يبزه الاسرع. اختراعات تولد وتلغي اختراعات سبقتها بشهور او اسابيع. وسائط اتصال كوكبية بسرعة ما بعد الضوء. عابر للحدود والازمنة والعقول. لا أحد يوقفها عن قفزاتها القارية، بل الكونية. الغيت المسافات واختصرت العلاقات. العالم في قبضة الشبكة العنكبوتية، العالم الافتراضي أمة بلغات متعددة. قربت الاختراعات بين البشر. جعلتهم اعداداً. لا

وجود لعائلة من بعد، العالم بدو رحل بالطائرات، لا يستقرون على حال. غابت عنهم مساقط رؤوسهم. ومقابرهم متناثرة في أربع رياح الارض. وفي اثناء هذه القفزات. ترجل الانسان عن انسانيته. صار رقماً متسلسلاً في قائمة ملياريه. هو مجرد مستهلك وسوقه بين يديه… وسيأتي اليوم الذي يفقد ما لديه، ليعيش فقيراً، يتسول هدوءاً ولقمة وحديثاً مع عابر ما، يشبهه في كونه ظلاً لظلال افتراضية.

أي جريدة باقية، لنستفد الآن بمن تبقى. الغد ملك الرقمي فقط. الغد، لا حاجة فيه إلى وطن. الوطن مستوطن في الافتراضي. القوة العظمى لن تكون اميركا او الصين او روسيا او الاتحاد الاوروبي. القوة العظمى هي قوة عالم افتراضي، ممسك بالعالم الواقعي من جميع جهاته، باستثناء ماله علاقة بالقهر والفقر والهزيمة. الافتراضي يقتل الانساني. فأين يقيم الله؟

الشيخوخة البشرية تتقدم. عدد سكان العالم إلى ازدياد. يا لبؤس الأمهات! يا لقِصَرِ اعمار الفرح! يا لفحش الأموال المهرولة من كل الامكنة إلى حيث مواطن رأس المال فقط.

“السفير” عاشت عمرها وزمنها. الصحافة كذلك، هنا وهناك، تستقيل من استقلاليتها. معروضة للبيع. والشَّراء من اصحاب المليارات. المشاريع الصغيرة لا فرصة امامها. المشاريع الكبيرة قصيرة العمر. وحدها المشاريع العملاقة تتمتع بضمان الاستمرار. العالم اليوم يفتقد الإعلام الحر، الفقير، الصادق، الذي كان “صوت الذي لا صوت لهم”، هنا وهناك وهنالك وفي كل مكان.

استقالة “السفير” جاءت في زمن استقالات الأوطان والافكار والاحزاب والانظمة والقيم… لن يعيش غداً أحد، الا على أطراف العالم الافتراضي، الذي سيكون حقيقياً جداً.

Exit mobile version