طلال سلمان

من دفتر الطفولة

في كل يوم جمعة تأتي إلى بيتي ما أطلق عليها قبيلتي الصغيرة.. الإبنتان وزوجاهما والأحفاد والأطفال. أقضي بعض اليوم أمارس هوايتي المفضلة، وأقصد التأمل والمراقبة، وبخاصة مع الصغار. أراقب السلوكيات والتصرفات بحثا عن مجالات الاهتمام عند كل طفل، ثم أقارن بينها وبين ما يمكن أن أتذكره عن نفسي في المرحلة نفسها.
***
سمعت من أهلي أنهم سكنوا حلوان بعد الزواج مباشرة ثم السكاكيني قبل أن يستقرا مع طفلين في شارع سامي بحي الدواوين عندما صدر القرار بتعيين والدي بوزارة المالية. سمعت أيضا من والدتي وشقيقة لها أن العائلة غيرت موقع السكن مرتين قبل الاستقرار لسنوات طويلة في شقة شارع سامي وأن التغيير كان بسبب أنه في الحالتين، حالة حلوان وحالة السكاكيني، كان المسكن مسكونا بالجن. للحق لست أذكر من منهما، أقصد الوالد والوالدة، الراوي ومن الشاهد. إنما أذكر جيدا أن أحدا منهما لم يكذب رواية الآخر، يجمل أحيانا أو يضيف ولكن لا ينكر أو ينفي.
***
نشأت على ظن أن هناك عالما آخر ننتقل له عندما ننام أو نزور الضواحي والأرياف. كانت تزورنا بين الشهر والآخر أم إحدى الخادمات وكانت على الرغم من تدهور صحتها الجسمانية والعقلية مبدعة وخلاقة في نسج حكايات عن عوالم العفاريت والجن. الغريب أنني كنت أميز بين حكايات الفلاحة وحكايات الأهل. لم يكن من خصال جبلت عليها أن أشك في حكي أمي ولكن كان مسموحا أن نشك في صدقية الآخرين ونجادلهم أو حتى نرفضهم. كبرت إلى حد المراهقة ورحت أسأل أبي عن رواية أمي عن عفاريت حلوان وأسأل أمي عن رواية أبي عن عفاريت السكاكيني. لم أسمع ولا مرة واحدة تكذيبا أو تشكيكا. كلاهما طلبا مني سؤال خالتي الأصغر التي أقامت معهما ردحا من الزمن إن رغبت في تفاصيل وافية.
***
كانت هذه الفترة من عمري مفعمة بالذكريات، أكثرها أكاد أثق بصدقية روايتي لها وبعضها يخيل لي أنه من صنع آخرين وما دوري، حسب ظني ودون أن أدري، إلا إعادة تدوير الرواية بأسلوب يخصني وإضافات من نسج خيالي وكلها أنسبها لغيري. قيل لي، أو لعلني أتذكر من تلقاء نفسي، أن والدي أصر على إلحاقي بالمدرسة الألمانية بشارع الفلكي وأصرت أمي على أن تذهب معي الخادمة صغيرة الحجم تحمل عني “عامود” يحتوي على مكونات وجبتي الضحى والظهيرة والفاكهة والحلوى الملحقة بهما. أذكر أيضا وجود راهبات وروائح زكية وحديقة غنية بالأشجار وغرف واسعة مكدسة بأنواع شتى من لعب الأطفال. أذكر أنه قيل لي، على لسان الخادمة أو لسان أمي أو لسان شخص غريب، أن هناك تعليمات للخادمة الأقل حجما مني، ولكن الأكبر سنا، تقضي بأن تحملني إذا أنا شعرت بالتعب أو بالألم المتولد عن احتكاك فخذي السمينين وعودة الدم يسيل منهما.
***
قيل لي أيضا، وكما أتذكر بكل الوضوح الممكن، سعادتي للعودة للبيت حيث أجد في انتظاري “أبلة عيشة”، المعلمة التي أوكل لها مهمة تجهيزي وانضاجي لامتحان يجريه ناظر مدرسة عابدين الابتدائية مع معلمين لإثبات صلاحيتي للقفز إلى “سنة تانية ابتدائي” مباشرة دون المرور بسنة أولى. أعرف الآن وبعد تجارب مع معلمين من أجناس متنوعة أنه لم يأت مثل “أبلة عيشة” ليحتل في قلبي هذه المكانة وفي ذاكرتي هذا المكان.
***
أذكر أيضا، وبالوضوح الكافي، تجربتي الممتعة مع مدرس الرسم الذي، بعد محاولات عديدة من التلقين والمحاكاة والرسم بالقلم الأسود وبالألوان أيضا، أطلق حكما لازمني بقية حياتي، أما الحكم فكان أنني طفل لا ولن يفلح في الرسم وأجدر به وبأهله وبكل مدرسي الرسم من بعده إبعادي عن هذا الفن وعدم إضاعة وقتهم ووقتي في التدرب عليه أملا في أن أحسن ممارسته في المستقبل. وأما المدرس فكان الشاب الأنيق خفيف الظل وصاحب الكلمات الناعمة وقد صار فيما بعد أحد أشهر ممثلي السينما المصرية تحت اسم كمال الشناوي.
***
استيقظت صباح اليوم على صوت “الشغالة” وهي تخبر ابنتي على الهاتف أنها أعدت لي البليلة بالحليب وجوز الهند والزبيب والسكر البودرة تماما كتوجيهات “البيه”. هذه البليلة صارت من المنبهات الضرورية للذاكرة عن أيامي في المدرسة الابتدائية. أذكر أننا كنا ندفع قرشا كاملا مقابل التدفئة المنبعثة عن وعاء البليلة وهي تغلي فوق موقد يعمل منذ السادسة صباحا في انتظار وصول التلاميذ والمعلمين، ومع التدفئة تأتي البليلة في صحن الألومنيوم والدخان متصاعد منه، وللتلميذ المواظب يرش البائع القرفة وجوز الهند فوق سطح البليلة الغارقة في الحليب الساخن.
***
كان فرضا من أمي تناول “الساندويتش” عند الساعة العاشرة، وهو من إعدادها شخصيا ويحتوي على قشدة وفيرة مستخلصة من الحليب الذي يأتي إلى البيت كل صباح ومع القشدة مربى أو سكر “مرشوش”.  كما كان فرضا من المدرسة تناول الغذاء في مطعم المدرسة ويشتمل على خضرة مطبوخة مع اللحم وأرز على جانب من الصحن، وثمرة يوسفي أو موزة للتحلية.
***
أتأمل وأقارن. لا أحد من أطفال قبيلتي استمع كل ليلة إلى حواديت “أمنا الغولة”. لا طفل بين الموجودين في بيتي يوم الجمعة ذهب إلى مدرسة حكومية، أو وقف على رصيف أمام المدرسة يأكل باستمتاع “بليلة” بالقرفة أو بغيرها، أو اصطحب معه كل يوم إلى المدرسة “ساندوتش” قشدة، أو تناول غداء ساخنا باللحم في مطعم المدرسة، أو اكتملت سعادته بتلقي دروسا خصوصية وهو تحت العاِشرة من عمره مع معلمة بديعة الشكل والجوهر، أو درس الرسم على يد شاب جميل صار فيما بعد ممثلا سينمائيا شهيرا.
***
أتأمل هؤلاء الأطفال وأقارن وأتساءل بيني وبين نفسي عن مستقبل جيل لم يحصل في طفولته على كل، أو مثل، أو بعض هذه المتع.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
Exit mobile version