تاريخ العلاقات بين الدول العربية حافل بالصفحات السوداء،
فجأة، ومن دون سابق انذار، يمكن لأي خلاف شخصي بين رئيسين او ملك ورئيس، او بين اميرين، او بين رئيس وأمير أن يتحول إلى حرب ضروس لا تُبقي ولا تذر.
فجأة تتهاوى علاقات الاخوة والمصير المشترك والمصالح المشتركة، وتستفيق الخصومات والاحقاد والثارات النائمة، ويلبس الطرفان عدة الحرب، ويستنفر كل طرف تحالفاته الاقليمية وتحالفاته الدولية ويطلق صرخة مدوية: يا للعار، يا للثأر!
ولقد شهد المواطن العربي خلال العقود الماضية معارك ضارية وحروب ابادة بين من كانوا إلى ما قبل اشقاء ـ حلفاء واخوة ـ شركاء، لأسباب غير مفهومة وبمبررات غير مقبولة، دفع ضريبتها الثقيلة “الرعايا” على الجانبين.
ومع أن معظم هذه “الحروب” غير المبررة، قد انتهت كما بدأت، فجأة، ومن دون شروح وايضاحات لأسباب الانفجار ثم لدواعي المصالحة..
.. ومع أن “الاصدقاء الاجانب” وليس “الاشقاء والاقارب” هم من نجحوا في “رأب الصدع” و”اعادة وصل ما انقطع” فان الرعايا العرب سواء في الاقطار المعنية او في دول الجوار من حولها، قد هزوا رؤوسهم وقد اخذتهم الحيرة لأنهم لم يفهموا أسباب الخصام ولا هم عرفوا دواعي المصالحة.
آخر ما حرر هي هذه الحرب الكونية التي شنتها سعودية الملك الجديد محمد بن سلمان واندفعت اليها مشاركة، ومن دون طلب دولة الامارات العربية المتحدة وتصدت البحرين لموقع طليعة الهجوم على الامارة المن غاز قطر..
حتى هذه اللحظة لم يفهم أحد من الرعايا ما اسباب هذه الحرب التي تذكر بحروب القبائل في الجاهلية، فالمملكة ومن معها يأخذون على الامارة المن غاز انتفاخ دورها في المنطقة بعنوان محطة “الجزيرة”، وتحولها إلى مأوى لجماعات الاخوان المسلمين وما شاكلها من تنظيمات التطرف الاسلامي في مختلف الدول العربية والاسلامية في آسيا وافريقيا وكذلك في دنيا المغتربات.
لكن هذا الدور القطري ليس جديداً، ومحطة “الجزيرة” اطفأت شموعها العشرون قبل حين، ولا جديد تحت شمسها..
..ولقد كانت السعودية دار الضيافة، اصلاً، لمعظم هذه التنظيمات فهل هي المنافسة؟! وهل دفعت قطر أكثر فكسبت الرهان واستقطبت هذه العصابات فأوتها ومولتها وسلحتها ودربتها، ثم أطلقتها لتعيث في الارض فساداً من دون اذن المملكة وبغير رأيها؟
الهدف واحد، والأدوات واحدة، فما هي المشكلة؟
على سبيل المثال لا الحصر: كانت الدوحة ارض اللقاء بين المعارضات السورية المختلفة.. وقد تولت الامارة المن غاز قيادة المعركة لطرد الجمهورية العربية السورية من الجامعة العربية، من دون أن تعترض السعودية ومن معها.. وان فشلت محاولة منح اشتات المعارضات مقعد سوريا في الجامعة..
وهكذا حلت الامارة التي “تشتري” رعاياها محل دولة عربية ذات دور تاريخي مشهود. من دون اعتراض من السعودية ومن معها بل بتأييد معلن بالصوت والصورة.
كذلك فان الدوحة قد رعت هذه المعارضات، بعنوان الاخوان المسلمين، واغدقت عليها صنوف الدعم بالمال والسلاح.. ولم تعترض السعودية وان هي حرصت على أن تبقى الرياض مقراً ثانياً، لهذه المعارضة، ودار مسّورة تبدي رأيها في الخطط العسكرية والسياسية المعدة لإسقاط النظام في دمشق، واعداد بديله المفترض..
.. ولقد ربحت السعودية المعركة في مصر حين اسقط “الميدان” حكم الاخوان المسلمين، ثم حين تولى الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي الحكم.. وخرجت قطر ـ ومعها الاخوان ـ تجر اذيال الخيبة.
في ليبيا اجتهدت الدولتان، السعودية والقطرية، في تقاسم تركة القذافي.. ويبدو أن القطريين كانوا أكثر سخاء، فمولوا “جيشاً” رديفا وزودوه بسلاح كانوا يعرفون أن بعضه سيهرب إلى مصر.
اما في تونس فقد راهنت قطر على الاخوان المسلمين، وشجعتهم ودفعت بالذهب ثمن وصولهم إلى السلطة، ولو كشريك اساسي.. ولم تكن السعودية في موقع المواجهة. لكن التجربة فشلت، ولم تسلم قطر بالفشل فظلت موضع شبهه.
“وتعايشت” السعودية وقطر في المغرب، حيث لا مجال للمنافسة..
.. ومع أن الحرب في سوريا وعليها شكلت نقطة لقاء بين السعودية وقطر، الا أن عدم النجاح في تحقيق الانجاز المطلوب، لا سيما بعد التدخل الروسي الحاسم، قد تسبب بخيبة امل مريرة، حمل كل طرف منهما الآخر المسؤولية عنه.
أما لبنان فلم يكن ارض حرب، وان كان الطرفان قد اختلفا في الموقف من “حزب الله”، وربما كان لعلاقة قطر الخاصة مع إيران تأثيرها المباشر في هذا المجال.
المهم أن التعارضات قد بلغت مرحلة “الحرب” بين الدولة الكبرى في شبه الجزيرة العربية والدولة الصغيرة والتي تبدو وكأنها “معلقة” بشريط رفيع مع الدولة الكبرى، وليس لها من سلاح الا غازها الذي نفخ طموحها حتى كادت تنفجر به.
الخلاصة: أن الكل في الخارج غير العربي رابح من هذه العداوة المستجدة، وان ظلت الولايات المتحدة هي الرابح الاكبر..
أما العرب فهم، كالعادة، في موقع الخاسر، في رصيد السمعة والدور واسطورة الاخوة ووحدة المستقبل والمصير..
وأهل الذهب، اسود وابيض، غير معنيين بمثل هذه الخسارة، بل هم يحسبون أنفسهم بين الرابحين!