طلال سلمان

من الجزائر إلى تونس والسودان ولبنان والعراق: العرب يقتربون من غدهم الأفضل

الشعب مبدع في حربه على اليأس وفي خلق الامل لمواجهة الاحباط.

أن الثورة نتيجة صراع مع الذات، بداية، ثم مع المحيط، قبل أن تتبلور وتحدد “عدوها”: انه “السلطان”.. ملكاً كان ام رئيساً، ام اميراً نفطياً، بالاستطراد.

.. واسباب الثورة في المجتمعات العربية أكثر من أن تحصى:

1 ـ دكتاتورية السلطة.. فالسلطان الحاكم يرى نفسه إلهاً يُحيي ويُميت.. وهو لا يرى الا مجده ومفاخر حكمه، ولا يحسب حساباً لرعيته التي عليها السمع والطاعة.. فهو أدرى منها بالمصالح الوطنية العليا، ومن ضمنها مصلحة رعاياه.

2 ـ محيط السلطان، في العادة، مجموعة من المستفيدين والمنافقين، لا يعرفون كلمة “لا” ولا يحبذون استعمالها الا في تشهدهم بأن لا “حاكم” غيره.

3 ـ لا وجود “للشعب” في رأي السلطان. الرعايا ليسوا شعباً بل اتباعاً لا يجمعهم الا الولاء للسلطان.

لهذا تفاجئ الثورة في أي مكان السلطان الذي يسقطها، عادة، من حسابه، مطمئناً إلى قوة القمع الجاهزة، والتي لا يعرف افرادها اباً او أخاً وصديقاً او اختاً او زوجة لقريب، وترى أن عابر السبيل مشبوه حتى يثبت العكس.. الذي لا مجال لإثباته.

..وها أن اعداداً من “السلاطين” العرب قد فوجئوا بالثورة تقتحم حدودهم المحصنة وتسقطهم واحداً اثر الآخر: من بن علي في تونس، إلى حسني مبارك في مصر، فإلى عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، وصولاً إلى البشير في السودان..

على أن أروع الانتفاضات الثورية هي هذه التي يشهدها لبنان، منذ شهر، والتي ولدت اهلها من الشباب منذ انطلاقتها ثم صمودها وقدرتها على التجدد والخلق والإبداع ما حصنها ضد الطائفية والمذهبية، ومخادعة النظام ” بأهله” الذين اكتشفوا انهم في مركب واحد، فطمسوا خلافاتهم وتضامنوا ضدها وحاولوا التحايل عليها بأساليب مكشوفة لكن الوعي اسقطها جميعاً، وأكملت مسيرتها نحو اهدافها.

وليس من شك أن الانتفاضة الشعبية الرائعة في لبنان قد أفادت من “التجارب الشقيقة” في تونس ومصر والجزائر والسودان..

وليس من شك ايضاً في أن شعب العراق المثقل بالذكريات السوداء “لمآثر” التقسيم الطوائفي الذي زرع في اساس “الدولة” مملكة هاشمية ثم دكتاتوريات عسكرية كان سندها الدائم: الانقسام بل التقسيم الطائفي.

ها هو شعب العراق، الآن، في الشارع، يتجاوز الانقسام المصنع، ويوحده الجوع والمهانة ونهب الثروات الهائلة التي تختزنها “ارض السواد”، ويخرج شعبه، الشباب، اساساً والقليل من الصبايا، ساعياً إلى استرداد حقوقه في وطنه.

وبعكس المواقف المحافظة في الغالب الأعم، فان المرجع الأعلى في النجف يطلق كل جمعة، واحيانا مع اية مواجهة بين قوى الامن وجماهير المتظاهرين الدعوة الملحة إلى اصلاح فوري، والى ضرب اسطورة توزيع المناصب على قاعدة طائفية او مذهبية.. فناهبو المال العام (وبالمليارات) لا دين لهم ولا هم يعبدون الا الدينار.. بل الدولار!

وكما تجاوزت الجماهير في لبنان اسوار الطائفية والمذهبية وزعاماتها، ها هو شعبه العراق يملأ الافق بهتافه: لا سنية، لا شيعية، لا عربية، لا كردية، ثورة ثورة حتى النصر.

أي أن الثورة الشعبية في لبنان كما في العراق، قد هدمت الاسوار بين الناس وأكدت لهم وحدتهم بقدر ما أكدت طبيعة الحكم الطوائفي الذي يرفض “وحدة الشعب” لأنها تضرب مركز سيطرته وانتفاع اقطابه بالمليارات.

واذا كان في لبنان بعض حيتان المال العام، فان المال العام في العراق منهوب بأكمله..

وثمة واقعة لا ينساها اللبنانيون: ففي مطار بيروت سقطت حقيبة سمينة لاحد العائدين من بغداد فانتشرت الدولارات (200 مليون دولار) في قاعة الوصول وتزاحم من حولها الجمهور، قبل أن تتدخل الشرطة لدعم “المهرب المسنود” واخراجه من المطار مع حقيبته المذهبة من دون خسائر تذكر..

فأما اليمن السعيد، والمفقر حتى الإملاق، فان أغنى دولتين عربيتين بالنفط قد اندفعتا، بداية لتغذية الانقسام المذهبي (زيود وشوافع) واحياء التقسيم المناطقي بين جنوب وشمال، والذي كان أُسقط بالقوة وتم توحيد اليمن شمالاً وجنوباً بكلفة عالية في الارواح والموارد..

علماً أن “الحكم الديمقراطي” الذي كان قد تولى الحكم في الجنوب بعد ابتداع جمهورية جنوب “اليمن الديمقراطية”، تسبب في سلسلة من المذابح بين “الرفاق” المصطرعين على السلطة في تلك الجمهورية المسخ التي لم يكن فيها ما يشكل مصدراً للدخل الا السمك ومرفأ عدن الذي عطله “الرفاق”.

أن شعب اليمن يجتهد الآن في مكافحة تمزيق بلاده باستعمارين (موحدين): دولة الامارات العربية المتحدة، بـ”شعبها” الذي يقل عديده عن سكان عدن، والسعودية التي تطمع باستعمار الشمال ـ الذي عجزت، عبر السنين ـ عن استعماره وإلحاقه بمملكتها ذات السيف في علمها الوطني.


أن هذا الحراك الثوري الذي تشهده الارض العربية، بمختلف انحائها، مؤهل لان يستولد الغد العربي الافضل، والادلة واضحة وناطقة الدلالات، منها:

اولاً: أن الطائفية والمذهبية تتهاويان وتوشكان على السقوط، بعدما تسببتا في ضرب الوحدة الوطنية وتقسيم “الرعايا” ليتحكم بهم الأقدر على استثمار العصبيات الطائفية (والعنصرية، حيث امكن).

ثانياً: انكشف “النهابة” و”حرامية المال العام” و”المختلسون” والسماسرة العاملين لمصلحة اصحاب رؤوس الأموال…

ومع أن هؤلاء قد هربوا اموالهم، ومنذ زمن، إلى العواصم البعيدة فانهم يخشون من نجاح الثورة في أي قطر عربي، لأنها قد تفتح الباب امام احتمال استعادة الثروات المنهوبة.

ثالثاً: أفقدت هذه الانتفاضات انظمة الحكم في الاقطار التي تفجرت فيها ثقة “الدول” بالأنظمة المتهالكة والتي عجزت عن وقف الانتفاضة او ركوب موجتها… مما يجعل اسقاط هذه الانظمة اسهل واقل كلفة.

وفي الختام فلا بد من الانتباه إلى أن “الشعب” في كل قطر عربي، يستعيد اعتباره، ويؤكد وحدته، ويحدد “اعداءه” بدقة، ويتحرك ضدهم بوعي وبحزم وبقوة تجعل استمرارهم في التسلط والتحكم مستحيلاً..

فلنأمل بأن نكون قد اقتربنا من غدنا العربي الافضل.

تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية

Exit mobile version