طلال سلمان

من الجزائر إلى السودان.. وما بعدهما: انتعاش الامل بغد عربي أفضل.. بلا سلاطين!

لكثرة ما عشناه من خيبات الأمل وفواجع النكسات ومآسي الهزائم بتنا نخاف من تمنياتنا، ونصحو مع الفجر ونحن نستعيذ بالله من هول ما ازدحم ـ في منامنا ـ من كوابيس تذهب بأحلامنا في التغيير وفي غدٍ جديد.

ذلك اننا نرفض واقعنا البائس الذي يرسخ في نفوسنا الشعور بالعجز عن التغيير. حكامنا انصاف الهة واعوانهم اباطرة والشعوب قطعان من الغنم يقودها الجالس على العرش ومن حوله رجال بالسيوف مستعدون للفتك بكل من يتطاول على عزة السلطان او حريمه او غلمانه..

ننظر إلى خريطة “وطننا الواحد”، كما علمنا الآباء نقلا عن اجدادهم، فنجده قطعاً متناثرة من “الدول”، جمهوريات وممالك وسلطنات وإمارات تحاصرها بالمهانة والعجز “دولة” زرعت في قلب ذلك الوطن العتيد بالقوة ومعها الخيانة والتواطؤ الدولي، ويأس “الشعوب” المقتتلة والمتخاصمة بفعل فاعل والعاجزة، بالتالي، عن التغيير.

ها نحن الآن نعيش فرحة مكتومة ونحن نشهد الموجة الجديدة من الانتفاضات الشعبية العربية، بعنوان الجزائر، بداية، ثم السودان.. والرئيس في كل من الدولتين، كان يرفض أن يغادر موقعه الفخم الذي وصل اليه بانقلاب على المؤسسات الدستورية، وفي غيبة الشعب عن القرار..

وللرئيسين المرفوضين انجازات باهرة:

1 ـ عبد العزيز بوتفليقة تسبب، بفساد ادارته وعسكره، في إنهاك الجزائر وشعبها الذي يشهد له تاريخه بالصلابة والاستعداد لبذل الروح والدماء من اجل تحرير بلاده من ربقة الاستعمار الاستيطاني، الذي انكر عليه هويته الوطنية” مفرنسة”.. فقاتل كما لم يقاتل أي شعب آخر، مقدماً مليوناً من ابنائه شهداء من اجل التحرر واستعادة هويته الاصلية وأرضه ولغته- الأم وكرامته وحقه في وطنه..

..ولقد ماطل بوتفليقه قبل أن يقبل مضطراً أن “يتنازل” عن سلطة لم يكن يستطيع أن يمارسها، مكلفا الجيش الذي جاء به من “المنفى” في ابو ظبي ونصبه رئيساً، بإدارة البلاد في انتظار أن يقرر “الجيش”، مرة أخرى، من يريد لهذا المنصب السامي!

لكن ملايين الجزائريين ظلوا في الشارع، يرفضون هذه الخديعة، ويطلبون استرداد حقهم الشرعي في أن يختاروا رئيسهم بأصواتهم، وبحرية وليس بالأمر.

..ومازال الشعب في الشارع، مصراً على إنقاذ ارادته واستعادة حقه في خلع النظام الدكتاتوري، وبناء مؤسساته الديمقراطية وانتخاب رئيسه الجديد ، ممثلاً شرعياً لشعب المليون شهيد..

والأمل في أن يستجيب كبار الضباط الطامعين على بالاحتفاظ بالسلطة في أيديهم، لحق الشعب في أن يختار رئيسه كعنوان لعهد جديد يقرر خط سيره بإرادته الحرة.

2 ـ أما في السودان فان الفيلد مارشال عمر البشير ظل يرفض مغادرة الحكم، ويزور انتخابات “مجلس الامة”، ويسجن كل من يخالفه من “رعاياه” وفيهم واحدة من ارقى النخب في البلاد العربية قاطبة… ثم أن هذا الشعب له تجربته السياسية الغنية، وفيه احزاب عريقة، وطنية وقومية وشيوعية، وتشارك النساء في حياته العامة بدور فعال..

..ولقد نزل الشعب بجماهيره العريضة إلى الشوارع في العاصمة بشقيها الخرطوم والخرطوم بحري، حيث يلتقي “النيلان” الابيض والازرق، ملوحة بأيديها العارية، وهتافها المميز، بضرورة اسقاط حكم الطغيان.

بعد أيام طويلة تحرك الجيش فقام بانقلاب على المارشال، وتولى السلطة واعداً باستيلاد “الديمقراطية” واعادة السلطة إلى الشعب خلال عامين!!

وكان بديهيا أن يرفض الشعب هذه الخديعة، فاستمرت الآلاف المؤلفة في تحركها محتلة الشوارع، هاتفة بإسقاط العسكر.. مما اضطر الجيش إلى القيام بانقلاب على الانقلاب اطاح بقائده وجاء برئيس الاركان بديلاً. وظل الشعب على رفضه الحكم العسكري، والمطالبة باستعادة حقه في اختيار من يحكمه في ظل نظام ديمقراطي يستحقه كثمرة لنضاله الطويل من اجل الحرية.

…ولقد سارعت بعض دول النفط إلى محاولة شراء “العهد الجديد”، حتى من قبل قيامه، فأوفدت دولتان منها من “يدرس الوضع الاستثنائي” الذي تعيشه البلاد، وتقديم العروض السخية “لشراء” الديمقراطية العتيدة قبل أن تولد، وذلك في محاولة لاستغلال الاوضاع البائسة التي فرضتها “دكتاتورية المشير” على هذه البلاد الغنية بأرضها الخصبة التي يرويها النيلان الابيض والازرق.. والتي أودى الحكم العسكري بوحدة ترابها الوطني فانفصل جنوبها عن الشمال منشئاً دولة ثانية، برعاية “الدول” بالعنوان الاميركي اذ استغلت واشنطن “استقلال” الاقلية الزنجية التي ابتدع لها “المبشرون” فجعلوها من البروتستانت، مع أن الناس هناك لم يعرفوا هذا المذهب، وظلوا بأكثريتهم مسلمين او على دين اجدادهم الاقدمين.

هل من حق الشعوب المخضعة بالقوة لأنظمة دكتاتورية، غالبا ما تجد حمايتها في الغرب (الاميركي اساسا او البريطاني او الفرنسي ومعها جميعاً العدو الاسرائيلي) أن تخلع هذه الانظمة المعادية لإرادتها، وان تستعيد حقها في ادارة شؤون اوطانها وفق مصالحها، ام كتبت عليه المذلة والمهانة ابد الدهر؟!

إن انظمة “الرجل الواحد” الآتي من العسكر غالباً، وبانقلاب على “الشرعية القائمة”، وبغض النظر عن هوية الحكام، لم تقدم لهذه الامة غير الهزائم والتخلف والفقر والعجز عن اللحاق بالركب الانساني، وظلت تعيش في جحيم الهوان.

وبطبيعة الحال فان الانظمة الملكية والسلطانية والاميرية لا تحتاج إلى الديمقراطية، فالملك من عند الله يمنحه لمن يشاء، او هو من عند “السيف” الذي يحظى بالدعم والاسناد من قوى الخارج، او انه “مصنع” تماما مثل “الدولة” التي نُصب على رأسها في بلاد بلا شعب، “صنعت” على عجل وبسبب من ثرواتها الطائلة من النفط والغاز (قطر، على سبيل المثال)..

ويروي الرواة أن رجل الاعمال اللبناني الراحل، اميل البستاني، الذي كان بين اوائل من عرفوا اقطار الخليج (سلطنة عمان، والكويت، ومشيخة قطر، آنذاك) زار ـ ذات يوم ـ الدوحة على متن طائرته الخاصة المزودة بزحافة تمكنها من الهبوط على الرمال، ومن دون الحاجة إلى مدرج. وقد ذهب فور وصوله للقاء “شيخ العود” ـ وهو اللقب الذي كان يطلق، آنذاك، على من غدوا بعد اكتشاف النفط والغاز ـ اصحاب السمو الامراء، وجلس اليه يناقش معه بعض مشروعات الاعمار في قطر.

ولقد لاحظ أن شيخ العود ضعيف النظر، ثم انه يسعل باستمرار.. فقال له انه سيحضر اليه من يعالجه حتى يشفيه. وهكذا جاءه، بالطائرة، من بيروت بطبيب عيون وآخر متخصص في معالجة الزكام والنزلة الصدرية.

الطريف أن الشيخ رفض قبول “النظارتين” الا اذا جاءه اميل البستاني بعشرين نظارة.. فجاء بها مستغربا، كما جاءه ببعض مشتقات البنسلين.. ولما زاره في اليوم التالي وجده قد فرض على جميع من يجالسه من الشيوخ أن يضعوا نظارات على عيونهم حتى لا يعيبوا عليه انه يضع نظارتين فوق عينيه.. كما طلب اليهم أن يجمعوا ما تيسر من الفقع (الفطر) بعدما ابلغه البستاني انه البنسلين انما يؤخذ من “الفقع”!


ليس سراً أن المواطن في أربع رياح الارض في شوق عميق إلى التغيير والخلاص من أوضاعه البائسة التي تجعله يعيش “ذليلاً” في ظل جبروت الاحتلال الاسرائيلي الذي لا يفتأ يترسخ في فلسطين ويحاول التمدد إلى ما بعدها (الجولان السوري)، وكذلك الهيمنة الاميركية التي تصادر ارادته وتطلعه إلى التغيير لبناء غده الافضل.

من هنا استبشاره بهذه الانتفاضة الشعبية المباركة في كل من الجزائر والسودان، وتمنيه أن ينجح هذان الشعبان العربيان العريقان في النضال من اجل استعادة الهوية القومية والارادة الحرة في بناء الغد الافضل.

فهذا المواطن العربي الذي يعيش في قلب المهانة، يرى أن بلاده تتهاوى امام زحف الهيمنة الاميركية على قراره الوطني الحر، فضلاً عن الثروات التي توفرها ارضه، وهو طامح إلى التغيير الشامل الذي يعيد اليه حقوقه في بلاده وفي بناء مستقبله بإرادته فوق ارضه الحرة.

لقد انهكته الانظمة الدكتاتورية، فأفقرته وأعجزته عن مقاومة ما يدبر لأوطانه من مؤامرات دولية أخطرها ما سماه الرئيس الاميركي الاحمق دونالد ترامب “صفقة القرن”، والذي يرى في العدو الاسرائيلي الشريك المثالي لتنفيذها برغم انف العرب، وعلى حسابهم في اوطانهم، وعلى حساب حق اجيالهم الجديدة في مستقبل يليق بتاريخ الامة وامجادها الغابرة.

والأمل دائماً في الشعب، فهو السيد في ارضه وعليها، وهو صاحب الحق الشرعي في بناء غده الافضل، ولو بالعرق والجهد الخلاق، والدم متى اقتضى الامر بذل الدم..

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version