لم يتقصّد سعيد ميرزا، القاضي، أن يحرّك فينا المواجع حين أصدر قراره، أمس، حول المقابر الجماعية، وبالذات منها المقبرة الجماعية في »محلة النبي العزير الكائنة في خراج بلدة عنجر«، التي وفّر كشفها بالمصادفة فرصة ذهبية لتجار السياسة ومستثمري الأحقاد ومستغلي المشاعر الإنسانية النبيلة لأغراضهم الرخيصة.
لقد أدى سعيد ميرزا واجبه كقاض من موقعه الرفيع، النائب العام لدى محكمة التمييز، فأعلن الحقيقة التي توصل إليها التحقيق عبر الفحوصات المخبرية في هولندا وتقرير اللجنة الخاصة بفحص مجموعة الرفات المكتشفة في عنجر… فشكراً له، مع أنه سيبادر إلى الرد: لا شكر على واجب..
لكن ما حدث، عند اكتشاف هذه المقبرة الجماعية، قبل حوالى مئتي يوم، يشكل نموذجاً للفضائح الأخلاقية التي تُبنى بها القيادات السياسية المستجدة أو المجدّدة نفسها في لبنان، والتي لا تتورع عن الكذب العلني على الناس، محتقرة عقولهم، بغير أن تتردد أمام التزوير واستخدام المزوّر، وبغير أن يأخذها التهيّب لحظة أمام العواطف والذكريات الحميمة، والأهم: ارتباط الناس بأرضهم وإيمانهم بهويتهم وبانتمائهم الأصيل.
تكفي استعادة سريعة لسيل التصريحات وبيانات الاتهام بل الإدانة، والمواقف السياسية التي بُنيت بالتعجّل، والأكاذيب التي روّجت آنذاك ثم صدقها مطلقوها طالما أنها تخدم أغراضهم السياسية الرخيصة.
لقد جعل بعض تجار السياسة اكتشاف هذه المقبرة الجماعية »لا يقل أهمية عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري«، وطالبوا بسحب سوريا إلى »بيت الطاعة« ممثلاً بمجلس الأمن الدولي، حيث بات لبنان زبوناً دائماً ولو لحساب غيره… ورأى فيها آخرون »إسقاطاً لمقولة الحرب الأهلية« التي كانوا هم بين »أبطالها«، بينما ذهب الأكثر فصاحة إلى اعتبارها »مقبرة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا« إلخ..
كان الخبر مأساوياً بطبيعة الحال. وتسمّر الناس يومذاك أمام شاشات الفضائيات والأرضيات المحلية والعربية والدولية، يتابعون أعمال الحفر وتصريحات الإدانة والتجريم التي توالى المسؤولون والقادة، القدامى منهم والمستجدون، على إطلاقها من جوار المقبرة، فلم يدّخروا كلمة من قاموس الشجب والاستنكار والإدانة، وصولاً إلى الشتائم المقذعة (ولو بالفصحى) لعهد الوصاية السورية وجرائمها المهولة التي لم توفر النساء والأطفال إلخ..
لم يتخلف »زعيم« أو »متزعم« أو سياسي مستجد باحث لنفسه عن موقع »متقدم« في مسيرة »الانقلاب«، إلا وأطلق ما في جعبته من سهام مسمومة على »السوريين« و»جماعتهم« من الذين تولوا المسؤولية في عهد الوصاية… وقد وجد فيها كثير من أبطال الحرب الأهلية فرصة لكي يرموا ذلك »العهد« بدائهم وينسلوا إلى ظلال »ثورة الأرز« حيث يطيب المقام.
كلهم فرح باكتشاف الحقيقة التي كانت مطمورة، ولولا الحرص على الأدلّة الجرمية لعاد كل منهم من عنجر ببعض عظام الرفات التي تبيّن الآن أن بعضها يعود إلى ثلاثمئة سنة مضت أو يزيد.
والسؤال الآن: هل سيعتذر أحد من تجار الموت بعد إعلان الحقيقة؟!
إن الأمر لا يتصل بمسلسل الأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها الإدارة السورية للشأن اللبناني، ومن بينها استيلاد »طبقة سياسية« هجينة، لا تاريخ لها من النضال أو من العمل الشعبي الجاد، أو من الثقافة والمعرفة، ولا أصل لها في التربة الوطنية ولا ذكر لها في حركة شعبها من أجل مستقبل أفضل.
إن الأمر يتصل بكذب هذه الطبقة السياسية، قديمها الذي جدّد نفسه بالزور والتزوير، أو جديدها الذي أطل عبر الاتجار بعواطف اللبنانيين ومشاعرهم وهجينها الذي أنكر »تاريخه« لينضم إلى ركب المنتصرين على »العهد المباد«.
إن هؤلاء بمنجاة من أي مساءلة أو حساب… فخداع الشعب والكذب عليه وتزوير الوقائع وطمس حقائق الحياة، وبينها التاريخ والجغرافيا، ليست جرائم ولا حتى جنحاً يحاسب عليها القانون، بل هي في الغالب الأعم أقصر الطرق للوصول إلى سدة السلطة.
والمسألة لا تخص سوريا، بل تخصنا في لبنان، وخصوصاً أن مثل هذه الممارسات تجعلنا ندفع الثمن مرتين، مع الفوائد… ثم نظل مهددين في مستقبلنا!
شكراً سعيد ميرزا، لقد نبّهتنا إلى أن الحقيقة تصل، غالباً، متأخرة وبعدما يكون »القدر« قد سبق »القضاء« فصنع السياسيين والسياسات التي لا تحمي لنا يومنا ولا هي تطمئننا إلى غدنا.