طلال سلمان

مع رينيه معوض مرشحاً فرئيساً فشهيداً.. والياس الهراوي: “المش خرج” رئيساً لتسع سنوات

لم أعرف رجلاً بين السياسيين او خارج دائرتهم في مثل دماثة رينيه معوض ورقته وعلو أخلاقه. وكان يخصني في مكتبي في “السفير” بزيارات دورية، ودائماً برفقة شريكة حياته نايله معوض التي غالباً ما تنوب عنه في الاجابة عن اسئلتي او في طرح الاسئلة التي تفرضها التطورات السياسية.

ولقد تلاقينا، مرات عديدة في الطائف، بالمملكة العربية السعودية، حيث عقد مؤتمر الوفاق الوطني الثالث والأخير، والذي كان مقرراً أن يختتم باختيار رئيس جديد للجمهورية مقطوعة الراس لبنان.

ولان رينيه معوض كان يعرف عمق صداقتي للأخضر الابراهيمي، وهو الذي كان الوسيط الناجح في التقريب بين السياسيين في لبنان، فقد كان يطلب اليّ، بين الحين والآخر، دعوة هذا او ذلك من المشاركين في الطائف إلى مائدة غداء في فندق شيراتون في منطقة الهدا، عند مدخل الطائف.

ذات يوم اتصل بي رينيه معوض ليبلغني أن سوء تفاهم قد نشأ بين نصري المعلوف والاخضر الابراهيمي، وان المعلوف قرر مقاطعة الابراهيمي وعدم الحديث اليه.

دعوت الجميع، سي الاخضر، وكان معه سي احمد غزالي الذي كان عين وزيراً للخارجية في الجزائر واوفد على الفور إلى الطائف “لتسهيل الامور”.. ومن الجانب اللبناني كان عليّ أن ادعو الأستاذ نصري وبيار حلو مع رينيه معوض (رحمهم الله جميعاً) إلى المطعم اياه في شيراتون الهدا.

كان نصري المعلوف على غير عادته، مقطب الجبين، وقد افتقدنا جميعنا حيويته وظرفه ونوادره اللطيفة.. اما “سي الاخضر” فقد اجتهد في التودد إلى “الأستاذ نصري” وروى عدداً من الحكايات واللطائف والمفارقات التي جرت معه او له، ليخلص إلى القول:

أما انت يا استاذ نصري فمحام قدير، وقد عُرفت ببراعتك الفائقة ومداهمتك القضاة من حيث لا يتوقعون فيتم تحديد كل شيء: المكان والزمان والاشخاص ولباسهم… اما انا فبيني وبينك خلاف مهني حقيقي، اذ انه اذا ما تحدد كل شيء يتصل بالحدث، اشخاصاً ووقائع وتوقيتاً خسرت موقعي ودوري، اذ احتاج كدبلوماسي إلى قدر من الغموض والالتباس لأستطيع أن اتحرك.. وهكذا فان ما بيننا هو تعارض مهني أتمنى الا يفسد للود بيننا قضية..

هنا اتيح المجال للآخرين جميعاً للتدخل في “فض الاشتباك” والدعوة إلى المصالحة العلنية بالقبل، فنهض الاخضر الابراهيمي ومعه الوفد الجزائري وتقدموا جميعاً من الأستاذ نصري ليتبادلوا القبل..

وانتهى الغداء وقد عاد الصفاء إلى الجو والابتسامات إلى الوجوه.

*****

بعد أيام انتهى مؤتمر الطائف بلقاء في احد قصور جده رحب خلاله الملك فهد بالنواب المشاركين وهنأهم بنجاح مهمتهم..

ولقد عاد الجميع، ونحن معهم، إلى مطار القليعات في شمالي لبنان، حيث أعدت بعض قاعات المسافرين لتكون البديل من المجلس النيابي العتيد.

معروف حين جرى حينذاك: فاز رينيه معوض برئاسة الجمهورية، وحصل “النائب” الياس الهراوي على 5 اصوات و16 صوتاً لجورج سعاده.. وكان طبيعياً أن ينسحبا في الدورة الثانية ليصير رينيه معوض رئيساً للجمهورية.

رافقنا رينيه معوض إلى اهدن، مصيف الزغرتاويين، حيث زار بداية الرئيس الراحل سليمان فرنجية، ثم انتقل إلى منزله حيث انعقدت حلقات الدبكة على دوي زخات الرصاص والزغاريد والحداء.

*****

في 22 تشرين الثاني عام 1989، لمناسبة عيد الاستقلال، اقيم احتفال بالذكرى السنوية لتحرر لبنان من الانتداب الفرنسي، وذلك في السراي الحكومية (وزارة الداخلية الآن).

ولقد ذهبت مع غيري لنهنئ فخامته بهذا العيد، الاول في عهده، وامضينا بعض الوقت هناك في جو من الفرح بمباشرة “الدولة” عودتها إلى الحياة..

وحين هممت بالمغادرة جاء عبد الله الامين ومعه ايلي حبيقة فقالا لي: مكتبك اقرب مكان يمكن أن نرتاح فيه الآن ونحتسي قدحاً من القهوة.

جئنا إلى مبنى “السفير” الذي لم يكن فيه أحد.. فطلبنا قهوة من فندق قريب، وجلسنا نتحدث عن هذه اللحظة التاريخية التي انهت، عملياً، الحرب الاهلية التي دامت دهراً..

فجأة، دوى صوت انفجار قريب، وقفزنا إلى النوافذ التي تطل على الشارع، الذي سيعرف فيما بعد باسم رينيه معوض، فشاهدنا دخانا اسود كثيفاً واصوات سيارات إسعاف واصداء اصوات اطلاق نار..

قال ايلي حبيقه وهو يلقي بنفسه: راح رينيه معوض!..

بعد دقائق دخل علينا عبد الله معوض الذي كان يعمل مرافقا مدنيا للرئيس، مع انه من معوض رميش وليس من معوض زغرتا: كان ممزق الثياب، ووجهه اسود نتيجة الدخان الاسود الذي تصاعد بعد التفجير فغطى المنطقة جميعاً.. قال عبد الله: دخيلكم بدي احكي مع القصر، اطمن على فخامة الرئيس..

كانت خطوط القصر المؤقت (الذي يملكه اصلاً الرئيس الراحل رفيق الحريري، في محلة الرملة البيضاء ـ السبينس) مشغولة جميعاً.. ولم يكن الاتصال مجدياً، فقد قتل الرئيس رينيه معوض في سيارته التي تفحمت ومعها عدة سيارات أخرى كانت في الموكب..

*****

…ولسوف يكون علينا أن ننتقل، بعد ايام، إلى شتورة بارك اوتيل، لنشهد انتخاب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية… وهو سيضطر إلى الاقامة في بيوت الضباط في ابلح لفترة… وسترتب زيارات لبعض وجاهات المنطقة الى “الرئيس الجديد”، وسيكون بينهم احد مخاتير بلدة بعلبكيه اضجرته الوعود التي اطلقها الرئيس الهراوي على سجيته، مع علمه انها غير قابلة للتحقيق… فما كان من ذلك المختار الذي كان شريكا للرئيس في زراعة البطاطا، الا أن قال متضجراً: وفر عليك الوعود، يا ابا جورج، ما دام مخترتي اكبر من جمهوريتك..

لكن هذا الرئيس ـ البديل سوف يبقى في المنصب الفخم تسع سنوات كاملة شهدت حروباً عدة، بينها “حرب الالغاء” بقيادة سمير جعجع ضد عون، كان مضطراً أن ينجز تشكيل الحكومة بعدما استغرق “الحمل” خمسة شهور.

*****

وكان محتماً أن استذكر ما سمعته من الرئيس الهراوي أكثر من مرة:

انا لست مجنوناً، وأعرف اني مش خرج، من شان هيك عم اشتغل لرينيه..

ولله في احوالنا شؤون!

 

 

Exit mobile version