طلال سلمان

مع الميادين مرة أخرى

قالت: “صحيح يا أستاذي، لقد كتبت بالفعل عن الميادين”. سألت: “ومتى كان؟”. أجابت: “كتبت في سبتمبر من العام الماضي”. أثارت الإجابة في نفسي فضولا. عدت أسألها: “لماذا هذا الحنين المتجدد إلى الميادين”. ولأسألها أيضا ولنفسي، “ولماذا في سبتمبر؟”.

أستطيع ببساطة شديدة أن أخمن أنا نفسي الإجابة عن سؤال سبتمبر. لماذا يستعر الحنين للميادين أو لميادين معينة في سبتمبر؟، يستعر الحنين في سبتمبر لأنه الشهر الذي يشهد تصعيدا مفاجئا لكل العواطف والمشاعر، وهو الشهر الذي تتكثف فيه الجهود لمقاومة كل أنواع الملل، والتخلص من كل البقايا التي خلفها الإحباط والأسى على امتداد شهور الصيف إن كنا نتحدث من مكان في نصف الكرة الشمالي، أو على امتداد شهور الشتاء، إن كنا نتحدث من مكان في نصف الكرة الجنوبي.

سبتمبر في رأيي وحسب خبرتي هو الشهر الأمثل لصنع الذكريات، وبمعنى أدق، لإخراج الذكريات من حيث ترقد في انتظار حنين تخرج معه أو إليه. أود هنا أن أعلن عن قناعة خاصة وهي أن الذكريات في هذا الشهر الرقيق تكون قد اقتربت جدا من السطح جاهزة ليقتطفها كثيرون رفعهم الشوق والحنين إلى مرتبة هي بين الأعلى في مراتب الحب.

***

اكتشفت بالتجربة الشخصية وأنا في هذه المرحلة المتقدمة من حياتي صلة العلاقة التاريخية التي ربطت سبتمبر بالميادين. لا أتحدث عن أحداث معينة وقعت لي أو معي في ميدان بعينه أو آخر، ولكن في كل سبتمبر أجد نفسي مدفوعا بكل الحنين نحو ميدان أو آخر من ميادين عشت فيها أو قريبا منها أو مررت بها. الميدان في عرفي تاريخ وثقافة وحكايات شقاوة و”حواديت” عنف وحب. لا أذكر أنني جلست على مقعد في مقهى يطل على الميدان أو على درج نافورة مياه في جانب من جوانب ميدان إلا وقادني المنظر إلى التفكير في ظروف حادثة أو أخرى وقعت في هذا الميدان. ما أن اقتربت مثلا من أحد مداخل ميدان المنشية بالإسكندرية إلا وطافت بمخيلتي على الفور حكاية الرصاصة الشهيرة التي لم تصب الزعيم عبدالناصر. وما أن اقتربت من ميدان السلام السماوي في وسط بكين إلا وتذكرت “تمشياتنا” ولا أقول “تسكعاتنا”، نزار قباني وأنا صباح كل أحد، متوجهين إلى حديقة القصر الإمبراطوري. هناك نتوقف أمام جماعة من الشباب يؤدون تدريبا رياضيا مألوفا. يراهنني نزار أن أفلح في التمييز بين حريم الصين ورجالها.

هنا في ميدان الإسماعيلية قبل أن تحل الثورة فيتغير اسمه، كنت أرى جنودا وضباطا من أجناس مختلفة وخيل وخيالة مدججين بالسلاح. أراها تخرج من ثكنات أذكرها جيدا مبنية بالطوب الأحمر أو بهذا اللون كانت تتلون. جنود هنود ونيباليون، هؤلاء كان يطلق عليهم “كتايب الجوركا”، معروفة عنهم القسوة، أو جنود من أستراليا يحملون علم الإمبراطورية العجوز.

كنت قرأت عن “هوجة” عرابي والتي انتهت بمجئ جيش الإمبراطورية، وكنت سمعت من أبي عن “ثورة” 1919، وكنت هناك بنفسي في يناير 2011 شاهدا على ثورة أخرى قررت أن تحيل ميدان الإسماعيلية إلى حكاية كبيرة وطويلة ومئات بل آلاف “الحواديت” والحكايات الصغيرة.   مررت به قبل أيام. جلست في سيارتي أقارن معالم تطوعت خزانة ذاكرتي بطرحها، معالم ميدان الإسماعيلية عندما كنا نمشي إليه في مظاهرات تلاميذ الثانوي أو في نزهاتنا في الطريق إلى حدائق قصر النيل في الأربعينيات.

***

عشت شهورا أطل عليه كدبلوماسي صغير وحديث التعيين من غرفة مكاتبنا وكانت فوق “سطوح” وزارة الخارجية. أطل وأقارن معالم الميدان كما طرحتها ذاكرتي لميدان الإسماعيلية، أقارنها بمعالمه وقد صار يحمل اسما مختلفا ثم بمعالمه عندما عدت من الخارج لأقضي فترة عمل في جامعة الدول العربية، ثم بمعالمه عندما نشبت ثورة يناير وكنت شاهدا يشاهد ويحلل ويوصي ويقترح ويشجع وينظم ويمشي بين الثوار يسأل ويجيب ويقارن ويتمنى ويشتغل بالتمييز بين الحقيقي والمزيف وبين الثائر وذي الغرض، ويعود ليقدم تقريره لأفراد في لجنة للحكماء.

أعرف أنه منذ ذلك التاريخ تغيرت وظيفة الميادين. عديد الساحات التي كانت مواقع حكم وسلطة في أوروبا الشرقية نشبت فيها ثورات أكثرها استعار من الربيع ألوانه ومن ثورة يناير شعاراتها وأحلامها. وقتها ومنذ ذلك الوقت حصلت الميادين على اهتمام يفوق الحاجة الأصلية إليها كساحات يشيد على جوانبها قصور أو مباني الحكومة وتصلح كمساحات معقولة ومتواضعة تسمح بمشاركة قطاع من الجمهور في مراسم تحية الحكام وكبار موظفي الدولة وقضاتها.

***

أعرف أيضا أن كثيرا من الدول قرر الاستغناء عن تقليد كان منتشرا وأقصد مشاركة الجماهير في بعض المراسم الرسمية، وعن وظيفة استقبال مظاهرات الغضب أو حتى الرضا. حدث هذا التغيير عندما قامت الحكومات بتضييق مساحات الفراغ في الميادين وإشغالها بقواعد أسمنتية وصخرية تحد من حركة المرور وتحول دون التجمهر داخل الميدان.  حكومات أخرى رفضت هذا الحل علما منها أن جماهيرها لن تسمح لها بتغيير معالم ميادين تزينها وتشرفها تماثيل قديمة لها مكانة ترقى إلى مستوى القدسية. تذكرت هذا الوضع وأنا أشاهد قبل يومين مظاهرتين عارمتين تجوبان شوارع لندن متوجهتين نحو ميدان أو آخر من ميادين تتحلى بتماثيل أو تقع وسط مباني اكتسبت بحكم قدمها وروعة هندستها حب الجماهير. خافت الشرطة أن تجتمع المظاهرتان في ميدان فينشب عنف بين المتظاهرين ففرقتهما قبل اجتماعهما. خافوا على الآثار في الميدان أن تصاب بأذى فأضافوا إلى جنودهم جنودا متخصصين وبعضهم فوق خيولهم لزيادة الهيبة. تفرق المتظاهرون قبل أن تمتد للميدان يد “غريبة” تهيمن وأخرى تغير التاريخ، فللميدان، كغيره من الميادين، سوابق في تغيير التاريخ.

***

عهد غير صريح على المطورين في الغرب كما في الشرق. عهد عليهم أن تخلو مدن المستقبل من ميادين فالحاجة إليها تنتفي بمرور الزمن. لا حاجة لدى المطورين وحكوماتهم لمؤتمرات شعبية أو مظاهرات تأييد واحتجاج، أما التماثيل الجميلة فللسياح فقط وداخل متاحف.

إنها ولا شك مهمة شاقة، أن تسحب الجمال من الساحات والميادين والمدن وتتركها غليظة ليس فقط على عين الناظر بل وعلى قلبه أيضا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version