ليس بالأمر الجديد أن يستخدم «الإسلام السياسي» لضرب العمل الوطني والطموح القومي إلى التحرر والتقدم في اتجاه العصر. بل ان الاستعمار القديم، بريطانيا بالأساس، كثيراً ما رعى نشوء حركات سياسية بشعارات إسلامية لمناهضة حركة التحرر الوطني، بأحزابها وقواها السياسية المختلفة، بالمزايدة أو بالمناقصة، بحيث يحتدم الصراع في الداخل فينشغل عن موجبات المواجهة لإسقاط الخطط الاستعمارية لتقسيم البلاد وأهلها، تارة على أسس طائفية أو مذهبية، وطوراً على قاعدة عرقية أو عنصرية.
إن مرحلة النهوض العربي التي تزامنت مع سقوط السلطنة العثمانية وقدوم الاستعمار الغربي، البريطاني أساساً، قد شهدت محاولات متعددة لاستيلاد تنظيمات سياسية في الأرض العربية، إسلامية الشعار، بقصد إضعاف التيارات الوطنية الوليدة المطالبة بل والمجاهدة من أجل التحرر بالاستقلال واستعادة الهوية الوطنية ـــ القومية، أي العربية إجمالاً، في حين كان «الإسلاميون» برعاية مباشرة من الاستعمار البريطاني، يروّجون لاستعادة «دولة الخلافة» مكفّرين دعاة الوطنية والقومية والاستقلال.
وها نحن نشهد موجة جديدة من الإرهاب بالشعار الإسلامي وبدعوى «العودة إلى الأصول» تحت راية «خليفة» أو أكثر، وفي ظل صراع مفتوح بين «الخلفاء» المزعومين، سواء من استظل منهم راية «القاعدة» أو من تقدم سابقاً إلى إعلان «دولة العراق والشام» طالباً «البيعة» من تنظيمات مشابهة في أقطار أخرى، لن تتأخر في إعلان ولائها ومن ثم انصهارها في جيش «الخلافة» العتيدة.
أما وقد تبدل الزمان ودالت الإمبراطورية البريطانية العجوز وهيمن العصر الأميركي، فقد انقسم دعاة الإسلام السياسي بين «جمهوريين» يتطلعون إلى المستقبل خارجين من الماضي، يتقدم صفوفهم «الإخوان المسلمون» في مصر على وجه التحديد، وبتحريض تركي على الأرجح، و «محافظين» يتمسكون بالخلافة ويستندون إلى التيارات الأصولية المتشددة في بعض أنحاء الجزيرة والخليج. وواضح ان هؤلاء «المتشددين» يتميزون بخزين من الغضب والخيبة يستولد قسوة غير مسبوقة، مترسبة من عهد صدام حسين، مضافاً إليها الخطايا التي ارتكبها غلاة الشيعة في الانتقام منه وتصفيته تحت رايات الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003.
فأما «دولة الخلافة»، فقد تحولت إلى استثمار أميركي ممتاز، إذ لم تجد بغداد المثخنة بجروح التعصب والإرهاب والنهب المنظم للدولة التي كانت الأقوى والأغنى في محيطها، والتي استنزفتها حروب صدام وتمت «تصفيتها» على أيدي الاحتلال الأميركي، إلا هذا الاحتلال ذاته مصدراً للنجدة… وقد جاءها بشروطه المتدرجة: أرسل طائراته المن دون طيارين، بداية، ثم طلب إلى أعوانه الغربيين المشاركة، فجاءت طائراتهم أسراباً، من مختلف دول أوروبا، وصولاً إلى استراليا التي لم يسبق لها ان قدمت نفسها كقوة عسكرية، مع التفاتة إشفاق إلى دول الخليج، سمحت بإشراك عدد من طائراتها وطياريها وطياراتها في المعركة ضد «خلافة الإرهاب».
وبعد جولات من المواجهات البرية التي أعطي شرف الريادة فيها لقوات «الإقليم الكردستاني» الذي تبدى دولة أقوى من «المركز» في بغداد، وتعثر هذه القوات، كان لا بد من زيادة الدعم الجوي، ثم فرضت الضرورة إشراك بعض «قوات النخبة» الأميركية والبريطانية والكندية. وغيرها على الأرض، كخبراء ومدربين في البداية. لكن الحاجة اقتضت زيادة أعدادهم وإنجاز خطط لتوزيعهم على القطعات العسكرية العراقية بعد «تطهيرها» من «العناصر القيادية» التي ثبت فسادها بالدليل المحسوس (في الموصل، بداية، حيث كانت فضيحة الاستسلام المدوية التي ارتكبها كبار الضباط فانسحبوا بغير قتال، تاركين تجهيزاتهم العسكرية وأسلحتهم التي تكفي لخمس فرق، وكذلك أموال الدولة العراقية في فرع المصرف المركزي عاصمة محافظة نينوى).
لكن الأرض العراقية متصلة ومتداخلة مع الأرض السورية التي كانت قوات «داعش» قد سبقت إلى احتلال بعض المناطق فيها بعنوان الرقة وما حولها، وتقدمت لاحتلال آبار النفط في جهات دير الزور والقامشلي، وقد ضمنت ان يشتريها منها «السلطان» التركي الجديد الطيب أردوغان، بحيث ترد إليه أفضال «التسهيلات» التي وفرها لاجتياح بعض شمال العراق وبعض شرق سوريا.
لا تمنع الفروق العقائدية بين السلطان التركي أردوغان، المتحدر من صلب «الإخوان المسلمين»، وبين «داعش» الذي ينادي بالخلافة، ان تزدهر تجارة المنهوبات بينهما، فالسارق من السارق كالوارث عن أبيه. ولا ينفع التدقيق في هوية مشتري النفط المنهوب، ما دام ذاهباً إلى بعض دعاة الحكم باسم الدين الحنيف، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص!
في المقابل، ينفع «الخليفة» التركي العصري الآن، والمرجعية السياسية العليا (من موقع الحكم) في التوسط بين الإدارة الأميركية و «الإخوان المسلمين» في مصر الذين أسقطت «دولتهم» في القاهرة انتفاضة شعبية عارمة، ليحل محلهم الطرف الوحيد الذي كان قادراً على أخذ السلطة: الجيش.. لا سيما في غياب القيادة السياسية المؤهلة لذلك الحشد البشري غير المسبوق الذي نزل إلى «الميدان» مرة ومرتين وثلاثا، لإسقاط الحكم الفاسد (حسني مبارك)، ثم لإسقاط حكم «الإخوان» الذي أكد ـــ بالمحسوس ـــ ان «الجماعة» يعيشون في عصر آخر، وانهم أعجز من ان يحكموا مصر ويلبوا مطالب شعبها.
هكذا، فوجئت القيادة الجديدة في مصر، بالإدارة الأميركية تستقبل وفداً من قيادة «الإخوان المسلمين»، برغم أن الشعب المصري قد أسقطها بحشود تظاهرات غير مسبوقة. ولا تكفي الوساطة التركية، ولو مشفوعة بالدعم القطري، كتبرير مقنع لهذا التصرف النافر، تقدم عليه الإدارة الأميركية، بذريعة الفصل بين «الإخوان» والتنظيمات الإسلامية الجهادية التي تقاتل الجيش المصري على امتداد صحراء سيناء، معلنة ولاءها للخليفة أبو بكر البغدادي الذي يقاتل لإقامة دولته في بلاد الشام.
لا بد أن ثمة خطأً فادحاً في الحسابات التي تقرر السياسات في البيت الأبيض، خصوصاً أن وزير الخارجية الأميركي قد دافع عن هذا اللقاء الذي تراه القاهرة «خطأ جسيما» في سياسة واشنطن عموماً، وإزاءها خاصة وعلى وجه التحديد: كيف يمكن الإمساك بالعصا من طرفيها؟! وهل تنزع واشنطن عن الحكم المصري صفة «الحليف» بتزكية خصومه الذين خلعهم بقوة الجماهير التي وفرت للجيش شرعية توجيه الضربة القاضية؟!
ثم إن التوقيت مؤذ جداً: فهذا التصرف الأخرق للإدارة الأميركية يتم عشية المؤتمر الدولي للاستثمار في مصر، والذي يحاول الحكم الجديد في القاهرة أن يحشد له أكبر تظاهرة عربية ودولية، مستعيناً على وجه الخصوص بدعم مفتوح من السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
كذلك، فإن التصرف الأميركي الأخرق يجيء، في توقيته، متزامناً مع أعنف الهجمات التي تشنها عصابات التطرف الإسلامي التي تجهر بولائها لـ «داعش»، على الجيش المصري في سيناء، متعمدة أن تكون «الحدود» مع قطاع غزة هي «الجبهة»، بما يستولده هذا الخيار الجغرافي من التباسات سياسية تؤدي بالضرورة إلى تفجر العلاقات المتوترة أصلاً بين مصر و «حماس»، التي تتولى «مهام الحكم» في قطاع غزة، من خلف ظهر السلطة الفلسطينية!
إن مصر الذاهبة إلى الحرب مع تنظيمات التطرف الإسلامي، ومع «سلطنة» أردوغان الإخوانية في تركيا، لا يمكنها أن تقبل هذا التحدي الأمني الخطير في سيناء. وبالتالي لا يمكنها ان تقبل هذه المبادرة الأميركية تجاه «إخوان مصر» في هذه اللحظة السياسية ـــ الأمنية الحرجة، التي استولدت «حالة حرب» في القاهرة كان بين عناوينها اعتبار سيناء جبهة وتعيين قيادة عسكرية استثنائية للجيش الذي سيتولى «تطهيرها»، مسقطة الفروق بين «حماس» والتنظيمات الأصولية في تلك الصحراء المصرية التي سبق أن أعلنت ولاءها لـ «داعش».
… إلا إذا كانت واشنطن تتبرع بدور وساطة يفترض ان يؤدي إلى عودة «المعتدلين» من «الإخوان المسلمين» في مصر إلى بيت الطاعة، والتسليم بشرعية الحكم القائم، ولو بغير طلب من هذا الحكم الذي كانت ردة فعله قاسية (وهذا متوقع).
هل عدنا إلى نغمة التحالف مع الإسلاميين المعتدلين، ولو كانوا «إخواناً»، لمواجهة «داعش» وأمثاله من تنظيمات التطرف الإسلامي؟ ومن يضمن ولاء «الإخوان» الذين ذاقوا حلاوة السلطة ويعيشون الآن مرارة خسارتها مرة وإلى الأبد؟!
يُنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية