طلال سلمان

مع الشروق كل الشواطئ العربية تحت الحصار الإسرائيلي … وقافلة الحرية تعيد توحيد الفلسطينيين

كشفت المذبحة المنظمة التي ارتكبتها الوحدات الخاصة وقوات المظليين في الجيش الإسرائيلي، بأوامر مباشرة من وزير الدفاع إيهود باراك مع مباركة علنية من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ضد قافلة «الحرية لغزة»، العديد من الحقائق الثابتة برغم حرص أهل النظام العربي على طمسها أو تمويهها.
[ أولى هذه الحقائق، أن الحصار الإسرائيلي يمتد، عملياً، من حول الوطن العربي الكبير من أدناه الى أقصاه، ولا يقتصر على غزة باعتبارها «الساحل الفلسطيني» الوحيد. بعض هذا الحصار بالأمر المباشر، وبعضه الآخر بتحاشي إغضاب إسرائيل و«إحراج» الإدارة الأميركية، وبالتالي خسارة المساعدات والتغطية على عورات النظام العربي وقصوره بالدعم السياسي.
وهناك حوادث مشهودة قامت فيها البحرية الإسرائيلية، كطليعة للأساطيل الحربية الأميركية، بمطاردة مكشوفة لسفن تجارية متجهة الى موانئ سورية، في البحر الأبيض المتوسط، بذريعة «الاشتباه» في أنها تحمل سلاحاً من كوريا الشمالية…
كذلك فإن إسرائيل تجاهر بأنها باتت تحكم سيطرتها على البحر الأحمر كله وحتى باب المندب… وفي الأيام القليلة الماضية شيعت دوائر المخابرات الإسرائيلية أن «بعض» غواصاتها باتت هي «الحارس» الفعلي لبحر العرب، عند مدخل الخليج العربي، وبذريعة محاصرة الأنشطة النووية لإيران والاستعداد لضربها… نيابة عن النظام العربي ولمصلحته.
وسبق أن نشرت أخبار عن مطاردات تولتها زوارق حربية إسرائيلية في البحر الأحمر لسفن متعددة الجنسية بذريعة أنها تعمل في تهريب السلاح الى غزة، عبر سيناء، وكان التبرير أن إسرائيل تقدم هذه «الخدمة» لمصر.
لم يعد البحر الأحمر، كما توهم العرب ذات يوم «بحيرة عربية» بدءاً من قناة السويس التي تربطه بالمتوسط وانتهاء بمضيق باب المندب، على ما تمكنت مصر من فرضه بالتعاون مع الدول العربية والأفريقية المطلة عليه ـ عشية حرب ـ العبور المجيدة في خريف 1973… الواقع الآن على العكس من ذلك تماماً، فلقد نجحت إسرائيل بفضل معاهدات الصلح مع كل من مصر والأردن (خليج العقبة) وبفضل إغراءاتها ونفوذها وإرهابها لبعض الدول الأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، في «مصادرة» هذا الممر المائي الحيوي الذي تتوزع دول عربية عدة المساحة الأكبر منه (مصر، الأردن، السعودية، جيبوتي، الصومال، اليمن)…
[ ثانية هذه الحقائق، أن العرب قد خسروا صديقاً كاد أن يكون شقيقا: جزيرة قبرص… وذات يوم كانت هذه الجزيرة تحتل موقعها على «خريطة الوطن السوري» كما تصوره واحد من الأحزاب التاريخية في المشرق العربي، الحزب السوري القومي الاجتماعي.
كذلك فإن العرب عموماً، ومصر أساساً، وسوريا بدور استثنائي لقرب الجزيرة من شواطــئها، قد دعموا المجهود الوطني بقيادة المطران مكاريوس، لتحرير قبرص من الاستعــمار البريطــاني… بل هـم قد دعموا وحدتها برغم اعتراض تركيا، وان كان الأمر الواقع قد فرض تقسيمها الى دولتين: إحداهما ذات اللسان اليوناني التي يعترف بها العالم، والثانية من مسلميها الناطقين باللغة التركية، وهذه لا تعترف بها إلا تركيا.
لقد بدل المسؤولون القبارصة موقفهم كلياً.. فبعدما سمحوا لقافلتين صغيرتين قصدتا، قبل شهور، غزة بشحنتين من المؤن والأدوية ولعب الأطفال، فلقد رفضوا استقبال قافلة «الحرية لغزة»، في الأسبوع الماضي. ومع أنه من السهل التبرير بإرجاعه الى أن معظم قاصدي غزة هم من الأتراك والسفينة الكبرى فيها ترفع العلم التركي، إلا أن ذلك لا ينفي «التحول» الذي طرأ على الموقف القبرصي نتيجة ضغوط إسرائيلية مباشرة معززة بالاعتراض الأميركي.
[ ثالثة هذه الحقائق، مع الاختلاف في الأسباب، علينا ألا ننسى أن الشواطئ اللبنانية تحت حصار دولي معلن، تتولاه ألمانيا، بموجب القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ـ يوليو 2006، وبذريعة «منع تهريب السلاح الى المقاومة في لبنان»… وهو سلاح من شأنه أن يخرج من الميدان المئتي رأس نووي والقبة الفولاذية وصواريخ باتريوت وطائرات الأف 16 وغيرها مما تحويه الترسانة الحربية، التي تتباهى بها إسرائيل وهي تفاخر بأنها أقوى قوة في منطقة الشرق الأوسط جميعاً والخامسة بين القوى العسكرية في العالم!
[[[[[[
لقد خسرت إسرائيل كثيراً عبر حربها الليــلية ضــد بواخر مــدنية تقل متطوعين من جنسيات مختلفة، وجهتها غزة، وبقــصد كـسر الحصار الوحشي على المليون ونصف مليون من أهاليها، بالنـساء والأطفال والشيوخ والعجزة، باللاجئين للمرة الثالثة ممن أخرجتهم إسرائيل من أرضهم مرة أولى ثم من ديار لجوئهم داخــل وطنهم، الى غزة..
خسرت إسرائيل التأييد الغربي المفتوح، واضطر العديد من حلفائها التاريخيين في أوروبا الغربية، وحتى في استراليا، إضافة الى بعض أوروبا الشرقية إلى الاعتراض على سياستها. كما خسرت التغطية الأميركية المطلقة لأية جريمة ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني (أو بحق لبنان، أو باعتداءاتها التي تكررت أكثر من مرة على سوريا).. صارت واشنطن تتذمر وتتأفف وتشكو نتنياهو الى ليبرمان!
لكن أهل النظام العربي قد عوضوا إسرائيل بعض خسائرها السياسية حين اكتفوا ببيانات الشجب والاستنكار، ثم أحالوا «شكواهم» الى مجلس الأمن الدولي، متناسين أن فلسطين جميعاً، وغزة على وجه الخصوص، قضية عربية لن يفيدها العالم كله إذا كان أهلها قد قرروا التخلي عنها والتنصل من مسؤوليتهم في الدفاع عنها وحمايتها وتولي مهمة فك الحصار عنها.
إن الاجتماعات الطارئة التي تبادر الى عقدها جامعة الدول العربية تنتهي فعاليتها قبل انعقادها وعبر مشاورات ومساومات وتعهدات بعدم طرح مشاريع قرارات جدية وحاسمة قد تحرج «الصديق الأكبر» في الإدارة الأميركية، وقد «تستفز» إسرائيل التي صار البعض ينظر إليها وكأنها «حليف ممتاز» يسّرته المقادير لمواجهة «الهلال الشيعي» ممثلاً بالغزو الإيراني… وضمن هذا السياق الذي بات معتمداً، جاء الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في «عرينهم» بالقاهرة، والذي شجرت الخلافات بداية حول موعده ثم حول مشروع القرار الذي سوف يتخذ، وضرورة مراعاة «الصديق الأكبر» وعدم إحراجه، وضرورة الابتعاد عن استفزاز إسرائيل في لحظة جنونها العسكري، والأخطر: عدم تمكين تركيا، ومن خلفها إيران، من استثمار هذه «الحرب الإسرائيلية» في المياه الدولية، غير بعيد عن الشواطئ العربية، لمصالحها، وإعادة الاعتبار للحكومة المقالة في غزة، بما يحرج «السلطة» في رام الله في لحظة دقيقة جداً: إذ إن لرئيس هذه السلطة التي لا سلطة لها موعداً مع الرئيس الأميركي بعد أيام… وكيف يذهب إذا ما تم توريطه في موقف قوي ضد إسرائيل بكل نفوذها داخل الإدارة الأميركية والكونغرس. وأضاف بعض الناصحين من أهل النظام العربي: علينا مراعاة الوضع الحساس للرئيس الأميركي الأسمر، فهو مهدد بأن يخسر الأغلبية في الكونغرس، عبر الانتخابات التي ستجري في الخريف، ولا بد أن ندعمه في معركته، ولو ببعض التنازلات، فغزة ليست، في نهاية المطاف، أغلى من موقفه المتعاطف والمتفهم والداعم لمجموعنا!
[[[[[[
لقد خرجت شعوب العالم الى الشــوارع، في الــغرب قبـل الشرق، تلوح بأعلام فلسطين، وترمي حكومة إسرائيل بما تستـحق من نعوت أقلها العنصرية، ودولة القتلة والسفاحين، دولة القرصـنة، والدولة المارقة، الدولة الخارجـة على القـانون الدولي، وحـوش المسـتوطنين الخ..
تجاوز الأمر بالنسبة لشعوب العالم كل ما يتصل بمن يحكم غزة وبأية شعارات، وكل الوقائع المخزية عن صراع «السلطتين».
فرضت الحقيقة الأصلية صورتها الدامغة: هناك شعب تعداده بالملايين يشرده الاحتلال الإسرائيلي، ولا يكتفي بإخضاع الفلسطينيين داخل وطنهم للحكم العسكري وحصار التجويع، وسلب أرضهم بالقوة ليزرع فيها المزيد من وحوش المستوطنين، بل إنه يمنع عن مليون ونصف مليون من أبناء هذا الشعب المحاصرين في غزة، بتواطؤ دولي مفضوح يشارك فيه النظام العربي بشراسة، الغذاء والأدوية والكتب ولعب الأطفال والحليب الخ.
لقد انتهت الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة، عبر غارتها الدموية على قافلة الحرية، بغير ما تشتهي، وعلى غير ما كان يتمنى أهل النظام العربي..
لقد خسرت إسرائيل تركيا كحليف تاريخي، استمر يساندها ويتعاون معها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً منذ بداية الخمسينيات… وهي تسببت بالقرصنة التي أسقطت تسعة من المتطوعين الأتراك، وتجاهل التحذيرات التركية، في أن تتحول الى «خصم» للحكومة التركية و«عدو» للشعب التركي.
ثم إن هذه الحرب العنصرية التي تواصل إسرائيل شنها على شعب فلسطين قد أعادت تجميع هذا الشعب المقسم قهراً وعنوة والموزع نصفه في ديار الشتات. أعادت غزة الى فلسطين، وفتحت الباب لتواصل يرجى أن يكون قريباً بين «السلطتين»، وتحت رعاية تركية تعزز ما تيسر من الجهد العربي في هذا المجال.
الأخطر: أن هذه الحرب التي أكدت الوحشية في النظام العنصري الإسرائيلي قد سرّعت في إعادة فلسطين القضية الى وجدان العالم، وأعادت الشعوب الى الساحات دعماً لحق شعبها المشروع في دولة له فوق «بعض» أرضه. حتى المعترفون بإسرائيل لا يستطيعون إنكار حقيقة وحدة الشعب الفلسطيني. ووحدة القضية تسقط الحدود الوهمية بين الفلسطينيين في مختلف مواقع وجودهم: في الضفة أو في غزة أو في ديار الشتات.
إن الفلسطينيين في طريق العودة لان يكونوا شعباً واحداً… اللهم إلا إذا استمر أهل النظام العربي، ومن ضمنهم أصحاب السلطة تحت الاحتلال، في منعهم، حتى لا تتجرأ عليهم شعوبهم لأسباب أخرى لا يمكن حصرها وتعدادها.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version