بات الحديث عن اندثار «العرب» هو السائد، كأنما الهوية الجامعة بين أشتاتهم الموزعة على عشرين دولة (قابلة للزيادة) كانت مجرد أسطورة أو اختراع غربي (بريطاني على ألأرجح) تمهيداً لإخراجهم كمسلمين، بغالبيتهم، من السلطنة العثمانية وشعارها الإسلامي الجامع.
وفي حين تمسكت مصر بإعلان الهوية العربية في اسم دولتها «جمهورية مصر العربية»، رسمياً على الأقل، فإن دولة مثل اليمن قد أُسقطت كلمة «العربية» عن اسمها الرسمي، وكذلك العراق وليبيا، أما سوريا ففي حين يتمسك النظام بهذه الهوية (الجمهورية العربية السورية) فإن المعارضة المقاتلة ضده بالسلاح قد أسقطت «العروبة» عمداً عن هوية مشروعها للسلطة. بالمقابل فإن دولة مثل «الإمارات العربية المتحدة» لم يكن أمامها خيار، إذ من دون العروبة كان يمكن لكل مشيخة أن تتخذ لها هوية شيخها والسلام.
هذا في الشكل، أما في المضمون فإن جامعة الدول العربية قد انتهت كمؤسسة جامعة لهذه الدول المسلّمة ـ مبدئياً ـ بهويتها العربية، ولم يتبق منها إلا الاسم.
لا جامع سياسياً بين العرب، أو دولهم، في هذه اللحظة أو ربما في المستقبل القريب. فلا «رأس»، لا قائد ولا قيادة، لا جبهة أو مرجعية ولا قيادة مشتركة تجمعهم على أهداف نضالهم الواحد بأهدافه حكماً، من أجل مستقبلهم الأفضل.
أما في «الشارع» فقد التهم الصراع على السلطة، في العقود الأربعة الماضية، من كانوا، ذات يوم، في صفوف النضال من أجل «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» كحزب «البعث»، أو في صفوف «القوميين العرب»، أو حتى في انشقاقات التنظيم الذي كان لكل منهما «قيادة قومية» و«قيادات قطرية» لكل فــرع.
ولقد تسبب سقوط السياسة في الوطن العربي، عموماً، واندثار الأحزاب التي شكلت في زمن سابق عماد الحياة السياسية بصراعاتها على السلطة تحت الشعار القومي في العودة ـ بالرغبة ـ أو بدوافع خارجية ـ إلى الدين… والدين مذاهب، وهكذا اختفت العروبة ليحل محلها «الإسلام» الذي بات الآن «إسلامين»: فهناك الأكثرية السنية، وإلى جانبها: الأقلية الشيعية الوازنــة. وعلـى الهامـش أكــثر من «إسلام» فيه المبتدع للفتنة أو لأغراض سياسية محددة.
ومع تفجر إيران بالثورة الإسلامية وإسقاط الشاه في العام 1979، كان منطقياً أن تبحث «الجمهورية» الجديدة عن مدى حيوي جغرافي وسياسي. فكان أن التفتت إلى الشيعة في جوارها العربي، الذين كانوا يعانون ـ في العراق خاصة ـ ظلامة واضحة بين مظاهرها إبعادهم عن مواقع القرار في السلطة. وكذلك في البحرين، ثمّ تمدد اهتمامها إلى شيعة الكويت، فإلى شيعة لبنان حيث وجدت معهم «القضية» التي تغطي المذهبية بشعار التحرير: تحرير ما يحتله العدو الإسرائيلي من أرض لبنان، وهي تقع في الجنوب ذي الغالبية الشيعية بين أهله.
أما في السياسة فقد وجد الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي كان على خلاف حاد مع صدام حسين، من جهة، ومع أنور السادات من جهة أخرى، حليفاً قوياً في إيران الخميني. وكان لا بد من أن ينسب «المدققون» هذا «التحالف» إلى التقارب ـ نظرياً ـ بين شيعة إيران الخميني و«علوية» حافظ الأسد، على ما بين الشيعة والعلويين من خلافات عقائدية حادة.
هكذا قام مشروع منظومة سياسية ـ طائفية، كان يمكن «للسنية السياسية» أن تجد فيها خصماً قوياً. ولعل حرب صدام حسين على إيران الخمينــي قد عــززت هــذا «التصنيف»، وقسمت عرب المشرق على أساس مذهبي، فاعتبر شيعة لبنان مع شيعة العراق والبحرين والكويت وعلويي سوريا وكأنهم في معــسكر واحد. مع أن هذا غير صحيح بالمطلق، وإن كان يمكن استغلاله في الصراع.
بالتأكيد فإن غياب مصر، التي لم تعرف مثل هذا الصراع المذهبي، ولم تشجعه في أي يوم، بل كانت وما زالت تمثل الاعتدال في الدين وتجمع بين «طقوس» المختلفين، هذا الغياب قد أفسح في المجال أمام تغييب المضمون السياسي، فتبدى المشرق وكأنه على وشك أن يستعيد فصولاً من «الفتنة الكبرى».
صار العرب عربين، أقله في المشرق. ولأن مصر غائبة، وكذلك الدول الوازنة في المغرب العربي (الجزائر والمغرب ومعهما تونس)، فقد تفاقم الصراع مذهبياً، وتمّ تغييب الجوامع الوطنية والقومية.
كان ذلك بديهياً ـ خصوصاً أن السعودية ذات التطبيق المتشدد لأكثر المذاهب السنية تزمتاً، قد تقدمت لتتصدر «أهل السنة» من موقع الخصومة التي تكاد أن تكون عداء للمذاهب السنية الأخرى، فكيف بالشيعة التي يسهل اتهامها بالتبــعية لإيران.
صار بديهياً، أيضاً، الحديث عن محور شيعي يمتد من إيران إلى العراق فلبنان، حيث للشيعة وجود وازن عبر سوريا التي يسهل دمغ نظامها بأنه «علوي» وبالتالي فهو أقرب إلى الشيعة، ثمّ أنه قد حالف إيران الشيعية في حربها على العراق السني بمجمله، برغم أن الشيعة فيه أكثر عدداً من السنة.
ومؤكد أن غياب مصر عن المسرح والفعل السياسي عربياً قد وسع مساحة الاختلاف الفقهي ظاهراً، السياسي فعلاً. كذلك فإن انتصار المقاومة في لبنان ممثلة بـ «حزب الله» الذي لا ينكر علاقته العضوية بإيران (تسليحاُ وتدريباً وتمويلاً) قد أضاف إلى رصــيد إيران (ومعها سوريا). في حين أن الموقف «المحايد» بل «البارد» الذي اتخذه المحور الخليجي بالقيادة السعودية، من المواجهة الشرسة لمقاتلي هذا الحزب مع العدو الإسرائيلي، قد ضرب ـ مرة أخرى ـ وحدة الموقف العربي، حتى من هذا العدو.
فلما تمّ تفجر الحرب في سوريا وعليها انقسم العرب، المنقسمون أصلاً، إلى معسكرين: أولهما، وهو السعودي ـ الخليجي ومعه تركيا التي كانت تعيش شهر عسل مع النظام السوري. وكان بديهياً أن يرى كثيرون في هذا الانقسام شبهة الانغماس في الحرب المذهبية، قفزاً من فوق الهوية العربية لسوريا بالتركيز على طائفة رئيسها.
ومرة أخرى، تتبدى هنا خطورة انكفاء مصر عن لعب دورها الجامع، من موقعها كأكبر دولة عربية، وصاحبة التاريخ الذي لا يستطيع أحد إنكار، سواء في مواجهة إسرائيل (قبل اتفاق كامب ديفيد)، أم في ترفع شعبها عن الانغماس في لعبة الانتحار المذهبية.
فأما العراق فإن الاحتلال الأميركي لأرضه وإسقاط نظامه وتسليم طاغيته صدام حسين إلى الشيعة في فوضاهم المريعة معززة بالعصبية الطائفية، كل ذلك قد أسس لفتنة مفتوحة في ارض الرافدين، سرعان ما أفاد من مناخها التقسيمي كل صاحب مصلحة في شطب دور العراق شديد التأثير في المواجهة المفترض أنها مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، ونقل الصراع إلى أرضه بعنوان مذهبي.
بالمقابل فإن الصراع على النفوذ في المنطقة قد بلغ اليمن. وهناك أيضاً تقدمت إيران لدعم الزيود (وهم يحتسبون مع الشيعة أو ضمنهم) مقابل الشوافع وهم من أهل السنة الذين سارعت السعودية إلى تبنيهم بحجة الحرص على حصتهم في السلطة.
المشرق، إذاً، من أدناه إلى أقصاه، غارق في مشاريع فتن، لم يحد من مخاطرها حتى اقتحام «داعش»، المسرح، مقاتلاً ضد الجميع.
ولقد أتاح هذا الوضع الفرصة لكل قادر على أن يجرب حظه فيقتطع من الأرض العربية ما أمكنه، بالنفوذ إن لم يكن بوضع اليد. وهذه هي حال تركيا التي تقدمت لتأخذ حصتها من الكعكة بوصفها، في غياب مصر «القيادة السنية» المؤهلة.
وفي كل هذه الجبهات تتقدم موسكو لتحجز مساحة لها، مشاركة واشنطن للمرة الأولى نفوذها، وها أن العاصمتين تتشاوران على مدار الساعة للوصول إلى صيغة تقاسم، على حساب أوروبا، وفي غياب أهل الأرض الغائبين أو المغيبين!
أما العرب فيخرجون سريعاً من التاريخ.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.