مع نجاح الانقلاب على مشروع الانقلاب في تركيا، يكتسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ملامح أتاتوركية، وهو «المدني» نشأة، «الإخواني» تربية سياسية، والمسكون بطلب السلطة والمزيد من السلطة حتى ليبدو تجسيداً للدكتاتور، بما يتجاوز السلاطين في عز سيطرتهم على البلاد والعباد من أقصى المشرق إلى قلب الغرب الأوروبي.
لقد حقق نجاحاً مؤزراً أكد معه ـ مجدداً ـ سيطرته على هذه الدولة المهمة موقعاً وقدرات، والتي أعاد بناءها، تقريباً، وفق خطة مدروسة مكّنته من شطب خصومه الكثر بل واستئصال بعض حلفائه التاريخيين، حتى خلا له الجو فجمع بين يديه السلطة جميعاً، وبات المصدر الوحيد للقرار. هو الآمر الناهي بلا شريك وربما بلا حليف إلا اضطراراً ومؤقتاً.
بل إنه أعاد صيغة الحزب الإسلامي الذي نشأ فيه فوفّر له الفرصة لسلسلة من القفزات التي مكّنته من السيطرة على بلدية إسطنبول، بداية، ثم تدرّج صعوداً إلى رئاسة الحكومة فإلى رئاسة الدولة التي يطمح الآن ليستقر فيها.. إلى الأبد؟
إن تجربة أردوغان الغنية «تغري» باستعادة بعض التجارب الحزبية العربية في القفز إلى السلطة، ثم البقاء فيها عبر صراعات استمرت ردحاً طويلاً من الزمن، قبل أن تستتب الأمور للأقوى بين المتصارعين على القيادة. وهي صراعات كلّفت الكثير من الدم ومن الأحزاب ذات الشعارات البراقة، «البعث العربي الاشتراكي» خصوصاً في سوريا والعراق، و «حركة القوميين العرب» في تجربتهم اليتيمة في جنوب اليمن، حيث قامت تحت رايتها «جمهورية اليمن الديموقراطية»، ثم أسقطت الراية وبعدها الجمهورية ذاتها بعدما استيسر القوميون وتمركسوا، في حين كان الاتحاد السوفياتي يتهاوى ومعه الحزب الشيوعي الحاكم بل والشيوعية جميعاً.
«البعث» حاكماً في العراق
قامت تجارب حزب «البعث»، في سوريا كما في العراق، على الاستعانة بالعسكريين للقفز إلى السلطة، وانتهت بسيطرة قائد فرد «بعثي» بالأساس على مركز الحكم تحت الشعار الحزبي، ليتوارى هذا الشعار لاحقاً خلف «القائد الخالد» الذي يحكم منفرداً، باسم الحزب بعدما يعيد صياغة قياداته ـ القومية والقطرية ـ بما يضمن سيطرته على السلطة جميعاً وبالتالي على الدولة بمؤسساتها العسكرية والمدنية كافة.
بدأت محاولات حزب «البعث» للدخول إلى السلطة في العراق مع نجاح ثورة 14 تموز 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم. لكن الشيوعيين كانوا أقرب إلى الزعيم، وهكذا فقد أفشلوا خطة «البعثيين»، ثم حرّضوا الزعيم وساعدوه على «استئصالهم» تحت شعار «ماكو زعيم إلا كريم».
ولسوف تشهد بغداد بعد ثلاث سنوات (أي في العام 1961) محاولة لاغتيال عبد الكريم قاسم، نظمها «البعثيون»، كمنطلق للثورة. لكن المحاولة لم تنجح، وانتهى الأمر بالقبض على معظم القيادات «البعثية» (كان صدام حسين بين مَن حاولوا تنفيذ الاغتيال، وقد أصيب يومها بجراح). وقد هرب بعض القياديين ممن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً إلى سوريا، ومنها انتقلوا ليعيشوا بعض الوقت في مصر كلاجئين سياسيين.. وكان بينهم صدام حسين نفسه.
بعد ذلك ستنجح محاولة ثانية للانقلاب شارك فيها «البعثيون»، لكن قيادتها كانت للعسكريين، وبالتحديد لعبد السلام عارف، الذي كان الرجل الثاني في ثورة 1958. ومرة أخرى، عمد العسكر، بعد فترة، إلى تحجيم دور «البعثيين». ثم جاء سقوط طائرة عبد السلام عارف، في أحد أنحاء العراق، ليوفر فرصة لشقيقه عبد الرحمن عارف لكي يتولى قمة السلطة في بغداد. وسيكون على «البعثيين» أن يعيدوا نسج تحالفاتهم مع بعض العسكريين تمهيداً للقفز إلى السلطة في 17 تموز يوليو 1968. ثم سيكون عليهم أن يُصفّوا حلفاءهم من العسكر تدريجاً حتى استتب الأمر لهم تماماً، تحت قيادة أحمد حسن البكر، لكن السلطة استقرت فعلياً بين يدي «سيادة النائب» صدام حسين، وهو نسيب البكر. وكان بديهياً أن يختفي البكر تماماً بعد حين لتستقر السلطة، كل السلطة، بين يدي صدام حسين، فحكم منفرداً حتى الاجتياح الأميركي للعراق في نيسان العام 2003.
بذلك انتهت تجربة حزب «البعث» مأساوياً، وانتهى معه العراق الذي كان، فاجتاحه الأميركيون (ومعهم بعض العسكر العرب حتى لا تتبدى العملية كما هي حقيقتها، احتلالاً عسكرياً أميركياً للعراق).
..و «البعث» حاكماً في سوريا
في أواخر أيلول 1961 وقع انقلاب عسكري في دمشق أطاح دولة الوحدة بإخراج سوريا من الجمهورية العربية المتحدة، ولقد رفض الرئيس جمال عبد الناصر أن يقاتل في سوريا بالجيش المصري لحماية دولة الوحدة.. فتم الانفصال.
كان طبيعياً أن تستعيد السلطة في سوريا سيرتها الأولى، وأن يقع انقلاب ثانٍ فثالث.. وأن يعود حزب «البعث» إلى الظهور، ثم إلى المشاركة في السلطة الجديدة، وأن يحاول تجديد العلاقة مع القاهرة، ومعه الحكم الذي يقوده الآن في العراق «بعثيون».
وهكذا بدأت محاولة لم تكن جدية تماماً لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر عبد الناصر وحزب «البعث» الحاكم، تلك اللحظة، في كل من دمشق وبغداد، انتهت بالعودة إلى الصراع المفتوح.
في هذه الأثناء، تحرّك مناصرو الوحدة في دمشق في محاولة لقلب نظام الحكم ففشلت حركتهم. وسادت فوضى عسكرية في سوريا أفاد منها «البعثيون» للسيطرة على بعض المواقع الحاكمة. وهكذا أمسك عدد منهم بمفاصل حساسة، فصار لصلاح جديد موقع قيادي بارز، بينما تمّت ترقية حافظ الأسد فقفز إلى وزارة الدفاع، محافظاً على موقعه كقائد للقوى الجوية. وهكذا أمكنه فتح دورات عسكرية متوالية حشد فيها مَن استطاع من تلامذة الضباط. وحين وقعت حرب 1967 توجّه الاتهام بالتقصير إلى القوى السياسية، وتمكّن حزب «البعث» من الإمساك ببعض المواقع الحاكمة. على أن الفريق حافظ الأسد استمر يعمل بهدوء للسيطرة على مراكز السلطة كافة، وحين تم له ذلك أنجز انقلابه في النصف الثاني من تشرين الثاني 1970. وقد استعان بمجموعة من الخبراء والقيادات العسكرية يمثلون مختلف المناطق السورية (حكمت الشهابي من حلب، عبد الحليم خدام من بانياس على الشاطئ، الكسم والحلبي من دمشق، الزعبي والشرع من درعا، طلاس من حمص)… وكان طبيعياً أن يعزّز وجود أبناء الريف الساحلي (منطقة اللاذقية وجبالها) في الجيش وأجهزة الأمن.
كان الحكم له بالمطلق، لكن شعارات الحزب في كل مكان، وثمة قيادة قطرية مختارة بعناية، وقيادة قومية (شكلية)، لكنها تلقي غلالة على الحكم تموّه حقيقة أنه لرجل واحد يعاونه عدد من «الرفاق المناضلين الأوفياء».
مع رحيل حافظ الأسد، تمّ التحضير على عجل لإعداد بشار الأسد للرئاسة وتسلّمها فعلاً.
..والسلطان يتوّج نفسه
الخلاصات المستفادة من هذه التجارب تشير إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد تحلّى بالصبر وهو يتقدم ليشارك في السلطة، ثم ليتقدم الصفوف إلى الموقع الأول. وكان خصمه اللدود الذي يطارده اليوم، فتح الله غولن، حليفه القوي، يسانده ـ وهو من الدعاة الإسلاميين ـ بوصفه ممثل «الإخوان المسلمين» ورئيس الدولة باسمهم وبحزبهم.
ولقد اتبع أردوغان نهج التقدم بهدوء، ولكن بثبات، للسيطرة على مفاصل الحكم، مستعيناً في تقدّمه بشعارات الديموقراطية وتجميع القوى السياسية جميعاً، بمن فيها المعارضة، (ما عدا المنظمات الكردية المقاتلة) لمواجهة احتمال عودة العسكر إلى الحكم، مستذكراً أن العسكر قد حكموا تركيا، وبالرضا الأميركي ومن دون اعتراض أوروبي جدّي، حوالي نصف قرن.
في تقدير الخبراء، وقد أكدت الأحداث هذا التقدير، أن أردوغان الطامح إلى التفرّد بالسلطة، قد تقدّم إليها بهدوء، متحالفاً في البداية، مع قوى سياسية وازنة، ودائماً لمواجهة العسكر.
لكن أردوغان، المتطلّع إلى عرش السلطان، قد تلاعب برفاق نضاله، فرفع البعض منهم إلى أعلى مواقع السلطة، ثم خلعهم منها بلا تفسير، فخسر صداقتهم، لكنهم ظلوا يشتركون معه في الارتياب بالعسكر. وهكذا عندما حانت اللحظة ودفع الطموح إلى السلطة ببعض الضباط إلى التجمّع ومباشرة الإعداد لانقلاب، كان أردوغان حاضراً فضرب ضربته الحاسمة ثم اندفع يستأصل كل من يشتبه بهم، ضباطاً وجنوداً، قضاة ومدرسين وطلاباً، إداريين وموظفين. وهو يتابع حملته بلا رحمة، ويكاد يتوّج نفسه سلطاناً جديداً. ولكن عرشه عرضة لرياح عنيفة بعد، من الخارج، أساساً، الذي لم يعد يقبل السلاطين، ثم من الداخل الذي تمّ هزه بعنف صدمه فجمّده. ولكن السؤال: إلى متى؟!
ينشر بالتزامن مع جريدة « الشروق» المصرية