استذكر كثير من الناس، والعرب أولهم، وهم يتابعون وقائع العملية الانتخابية في أفغانستان، طفولتهم واستمتاعهم بالصور الطريفة التي كانوا يتفرجون عليها بمتعة على إيقاعات المشغل الظريف لصندوق الدنيا، وهو يهتف بمرح: تعال تفرج يا سلام على عنترة الهمام وعلى عبلة بنت الكرام، تعال شوف الشاطر حسن المغوار وهو يشق البحار للوصول الى ذاتِ الخمار، تعال تفرج على بلاد العجائب والأحلام بلاد الجبابرة والأقزام الخ..
أوقفت معظم الفضائيات العربية برامجها العادية، وأسدلت ستاراً من النسيان على القضايا موضع الاهتمام العام، وبينها حروب أو مشاريع حروب أهلية جديدة أو مجددة في أكثر من قطر عربي، بينها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ما يجري في العراق ولأهل العراق، وما يجري في اليمن ولأهل اليمن، فضلاً عما يحيق بفلسطين، قضية مقدسة وشعباً مضيع المصير، وانتقلت بمراسليها ومعلقيها وجهابذة التحليل، الى أفغانستان، والى الإنجاز التاريخي فيها: الديموقراطية المحمولة على ظهور الحمير بحراسة الطائرات والحوامات الحربية والصواريخ التي لا تخطئ أهدافها في تلك البلاد التي استعصت، عبر التاريخ، على المستعمرين والمحتلين سواء أجاؤوها من الجار الخطير أو من دول عظمى خلف البحار تملك أسلحة الدمار الشامل وقرار الشرعية الدولية الذي لا يقل قدرة تدميرية عن القنابل النووية!
كانت مجريات الديموقراطية المحمولة في غاية الطرافة: صناديق الاقتراع تنقل إما على ظهور الحمير، في مناطق شديدة الوعورة، أو في طوافات وحوامات حربية طالما أطلقت صواريخ الشرعية الدولية على الفلاحين البسطاء ورجال القبائل الذين لم يعرفوا كثيراً عن العالم البعيد، وان كانت طبيعة بلادهم الجبلية وانعزالها خلف جبالها وخلف ذاكرة الدنيا قد وفرت لهم شيئاً من الحماية والمنعة وجعلتها «مقبرة الغزاة» بالمعنى الفعلي.
وكان «المجتمع الدولي» بقيادته الأميركية وحوارييها الأوروبيين يستمتع بالمشاهد الطريفة المنقولة من «قعر الدنيا» عبر الفضائيات، لبعض شعوب العالم الثالث، والإسلامية منه على وجه الخصوص، وهي تمارس الديموقراطية على الطريقة الغربية، بما يذكر بحكاية القرد الذي حاول تقليد النجار في الحكاية الشعبية المعروفة.
لم يكن مما يهتم له المجتمع الدولي الجانب الدموي لهذه المشاهد الطريفة… فهو يرى أن الديموقراطية إنجاز سام يستحق التضحية بالروح والدم، لا سيما أن «الناخبين المفترضين» مرشحون للقتل على مدار الساعة، إن لم يكن في نزاعاتهم الداخلية فعلى أيدي قوات الاحتلال الأميركي المدول، المجهز بأحدث أسلحة الإبادة التي يمكنها أن تستأصل مع أهل البلاد أسباب الحياة فيها، بيوتاً هي كالجحور وأشجاراً وحقولاً… اللهم باستثناء مصدر الثروة التي ستعوض تحالف دول الاحتلال خسائرها: حقول الأفيون!
ثم إن القفزة الهائلة التي سترتفع بشعب أفغانستان، على اختلاف أعراقه، من وهدة التخلف الى مجد المعاصرة والحداثة قد تكون مكلفة، ولكن لا بد منها لمن أراد ولوج القرن الحادي والعشرين محمولاً على الدبابات الأميركية، ومع الاحتفاظ بأصالة أفغانــية مؤكدة بعباءة كرزاي وعمائم شيوخ القبائل التي أسقطت عليها الديـموقراطية بالمظلات!
صحيح أن الاحتلال أبشع من أن تخفي طبيعته المتوحشة «كتب» القوائم الانتخابية عديدة الصفحات والدعايات المتلفزة للمرشحين ـ وأبرزهم عاد الى البلاد مع قوات الاحتلال ـ وصناديق الاقتراع المحمولة على ظهور الحمير، في حماية القاذفات الأسرع من الصوت والتي صواريخها أشد إحراقاً من نار جهنم.
لكن الصحيح أيضا أن العصر الأميركي مصفح بحيث لا يمكن أن تلجه الشعوب المقهورة إلا بدمائها.
كذلك فإن العملية الديموقراطية تجري تحت رقابة البعثات الأوروبية لمراقبة الديموقراطية… وهي قد أعطت شهادتها القاطعة بسلامة هذه العملية!
فضلاً عن أن رئيس دولة الاحتلال، الرئيس الأميركي باراك أوباما قد هنأ الشعب الأفغاني على إنجازه الديموقراطي مع استمراره على دينه الحنيف، دون أن ينسى تحذير الديموقراطيين الجدد من اللجوء الى العنف!
[[[[
لولا شيء من التحفظ المبدئي لأمكن اعتبار الإصرار على إسقاط الديموقراطية بمظلات الاحتلال العسكري على بعض الشعوب التي قادها طغيان أنظمتها معززاً بالتخلف الى وهدة التدمير الشامل لدولها وطاقاتها وثرواتها، بمثابة إعلان رسمي بتفجير الحروب الأهلية عبر صناديق الاقتراع.
فالديموقراطية المحمولة على ظهور الحمير أو بالحوامات العسكرية لجيش الاحتلال كافية للتدليل على الاستعجال في تحويل الانقسام الأهلي الى اشتباك مسلح ينظمه ويرعاه ويقطف نتائجه المحتل المتحكم بمجريات الأمور، والمتعجل في نقل مشكلته مع شعب البلاد التي يحتلها الى اشتباك مفتوح بين أهلها!
… خصوصاً أن هذا المحتل قد تعرف، على الأرض التي تنزف دماء ناسها، الى عمق الانقسامات الإثنية والدينية والمذهبية، الموروثة والمنسية، وان كانت لا تزال قابلة للاشتعال، بما يشغل هذه الشعوب المقهورة أصلا بالطغيان الذي سهل على الاحتلال وراثته، عن التضامن والتكاتف والتعاضد، لتحرير البلاد عبر تجاوز مخلفات حقب غائرة في الماضي من أجل استنقاذ المستقبل.
… وهذا العراق شاهد وشهيد!
فانقسام الشعب الواحد الى أطراف مقتــتلة علــى وهم السلطة في ظل الاحتلال هو المخرج المثالي المنقذ للمحتل من مواجـهة المقـاومة التي قد تجمع شتات أبناء الوطن الواحد على هدف نبـيل وسامٍ يتصل بحياتهم وبحقهم في صياغة مستقبلهم (الواحد بالضرورة) بإرادة التحرير.
وهذه محنة فلسطين تشهد بأن الانقسام الوطني خدمة مجانية للاحتلال الإسرائيلي.
لا يمكن استيراد الديموقراطية،
كما لا يمكن إسقاطها من الطائرات الحربية للاحتلال.
وبالمقابل فليس بناة الديموقراطية هم من ينصبهم الاحتلال حكاماً بعسكره، ثم يحاول أن يستدعي شعبهم الى تأييدهم بقوة مدافعه، أو بما هو أخطر: بتهديدهم بأن البديل هو حرب أهلية لا تنتهي، تدمر وطنهم وتمزق وحدة شعبهم وتمكن للاحتلال من أن يصبح الملجأ الأخير!
الدرس العراقي شديد الوضوح بحيث انه يكشف الدول المتواطئة مع الاحتلال الأميركي على وحدة شعب العراق وبالتالي على وحدة كيانه السياسي، أي دولته.
إنه درس مكتوب بدماء العراقيين،
كما انه إنذار بالنجيع لشعوب المنطقة جميعاً، من حول العراق،
فالاحتلال يأتي ببعض من يفترض أن شعبهم يحترم تاريخهم ويضعهم في الواجهة، فإن فشلوا فهم المسؤولون، وان نجحوا فالفضل له وهذا يشرعن دوامه… عبر الإرادة الشعبية كما تجسدها صناديق الاقتراع!
أما في أفغانستان فإن أصحاب الســلطة فيه هم الذين جاء بهم الاحتلال بطائراته المدنية بمواكبة طائراته العسكرية ليسقطهم على قمة الحكم… ثم هيأ لهم أن يشرعنوا سلطتهم بالديموقراطية المحمولة على الحمير!
ولان أصحاب السلطة، وبالشراكة مع كبار ضباط الاحتلال، هم المستثمرون الفعليون لزراعة الأفيون وتجارته وتسويقه عالمياً، فلقد كان طبيعياً أن يتولوا حماية هذه «السلعة الاستراتيجية»، خصوصاً أن بعض أرباحها ستستخدم في الصراع الديموقراطي على سلطة محلية تنفع كقناع يخفي وجه الاحتلال.
وهكذا فإن المنافسة قد تركزت، أساسا، بين «الرئيس» الذي كان معتمداً من طرف الاحتلال على امتداد سنواته الرئاسية الفائتة، كارزاي، وبين من كان بمثابة الرجل الثاني أو الاحتياط الاستراتيجي للاحتلال عبد الله عبد الله، وهو الذي اعتمد وزيراً للخارجية طوال سنوات.
إنها تمارين على إدامة الحرب الأهلية… بالديموقراطية على الطريقة الأميركية!
بالمقابل فإن أجهزة الإعلام العربية التي أنفقت عليها المليارات لتغني الناس عن السياسة بالفرجة عليها، ترافق هذه الجهود الأميركية لتدريب شعوب العالم الثالث، والمسلمين منهم خصوصاً، والعرب ممثلين بشعب العراق على وجه أخص، على الديموقراطية بحملة مكثفة لأنسنة الاحتلال: تقدم لنا الجنود القادمين لاحتلال أرضنا، وسط عائلاتهم في وطنهم والتي سيتركونها وقد لا يعودون اليها، في مشاهد عاطفية مؤثرة… ثم يتم تصوير هؤلاء وهم يتدربون، في قرى بنيت خصيصاً لتشبه مواقع متمردة مفترضة في العراق، فيقومون بالهجوم عليها مستعينين بأدلاء من المهاجرين العراقيين الذين تخلوا عن هويتهم منذ زمن بعيد، وقد يصاب أحدهم أو يقتل وينقل جثمانه الى ذويه في موكب تظلله المأساة، لكن ما يعزي أهله أنه قد فتك بالمتمردين العراقيين فتكاً فظل يقتل منهم بقنابله ورشاشه (تعاونه قذائف الدبابات وصواريخ الطائرات) حتى أباد قريتهم تماماً!
[[[[
الديموقراطية الأميركية مكلفة أكثر من الدكتاتوريات العربية،
والخيار محدد: هل تريد ديموقراطية محمولة تسقط عليك مع القذائف من طائرات الاحتلال، أم تقبل «الدكتاتورية الوطنية» باعتبارها أهون الشرين؟!
في الحالين يضيع عليك وطنك، وتسقط عنك هويته، لتغدو مجرد رعية في قبيلة أو طائفة أو مذهب، وتحت الاحتلال والطغيان معاً؟!
لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب تصنع أقدارها.. ولو بكلفة عالية!
ويبدو أن هذا هو المقدر والمكتوب على العرب والمسلمين جميعاً في هذا العصر الأميركي ـ الإسرائيلي!
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية