يعاني المواطن العربي – بأكثرياته المسلمة – من خلل فاضح في علاقته بتنظيمات الإسلام السياسي.
لقد نشأ وهو يحمل لها صورة غير محببة تبدأ من شكليات، كالقيافة المميزة واللحى، وصولاً الى السجن الذاتي للمرأة في لباسها الذي يظهرها أسيرة دهور التخلف والخوف من الشمس، وتنتهي في الطروحات السياسية الملتبسة التي كثيراً ما أساءت الى هذه التنظيمات، إذ أظهرتها وكأنها خارجة على هوية الأمة، لا هي تقر بالوطنية ولا هي تقبل بالعروبة هوية جامعة.
على مر السنين، وعبر معارك المواجهة مع القوى الاستعمارية، ثم في معارك الاستقلال الوطني وإقامة الكيانات السياسية، كانت التنظيمات الإسلامية مشغولة بأمور أخرى، بينها ترميم الخلافة الإسلامية (العثمانية) أو إقامة خلافه أممية جديدة، وفي كل الحالات المناداة بالإسلام هو الحل، حيث تكون المعارك السياسية محتدمة، ويضيق مجالها الفكري او ميدانها العملي عن استيعاب الدين بتنوعاته الفقهية ومنطلقاته وقواعده المطلقة التي لا تتناسب مع مجتمعات قائمة على التعدد وحق الاختلاف.
حتى في قضية فلسطين، والصراع الذي ما زال مفتوحاً مع المشروع الإسرائيلي الذي هو حصيلة مخطط دولي اجتمعت على إعداده دول كبرى وهيئات ومنظمات اجتماعية وفكرية ترفدها رساميل أممية هائلة، اختار الإسلاميون التركيز على الجانب الديني لهذا المشروع السياسي الخطير، موفرين بذلك مزيداً من المبررات لحرب دينية، في حين انها – بداية وانتهاء – حرب مصالح استراتيجية، تهدف الى فرض هيمنة مديدة على الأرض العربية الغنية بموقعها ومواردها، وإن ظل لها شميم ديني آت من الماضي أكثر مما هو متصل بالحاضر، واستطراداً بالمستقبل.
ها نحن الآن نشهد ما يمكن اعتباره اجتياح الماضي لمستقبل هذه الأرض العربية، بالاتكاء على مساندة معلنة من قبل القوى العالمية الكبرى في مواجهة التيار الوطني – القومي التقدمي في العديد من الأقطار العربية التي أعادتها الانتفاضات الشعبية الى الحياة.
لا يتصل الأمر بمناقشة حق الإسلاميين، كقوى سياسية ذات وجود فاعل في معظم المجتمعات الإسلامية، في أن يصلوا بالانتخابات الى السلطة. ذلك يتنافى مع بديهيات الإيمان بالديموقراطية المجسدة بإرادة الشعب.
لكن المسألة تتصل ببرنامج الإسلاميين على تنوعاتهم الإخوانية والسلفية، سواء بصيغتها التقليدية القديمة أم بصيغها الجديدة المحسنة بالحذف والإضافة، كما في الطبعة التركية التي يراها البعض «معاصرة» ويمتدح نجاحات مؤسسيها ودعاتها والحاكمين باسمها في تقديم «نسخة حضارية» يقبلها الغرب بل ويزكيها، بديلاً من النسخة القديمة المتخلفة، في تقدير الجمهور المخاصم للتوجهات الإسلامية.
ولأن قضية فلسطين، وبالتالي الاحتلال الإسرائيلي للأرض والقرار، تفرض نفسها على الحاضر العربي، ومن ثم على المستقبل، كما فرضت نفسها من قبل على الماضي، فإنها تتصدر أسئلة الامتحان الفعلي لبرنامج الإخوان المسلمين وهم يتقدمون الى موقع القرار وسلطته في أكثر من بلد عربي.
على هذا فالنموذج التركي لا يوفر الإجابة المطلوبة لمن يبحث عن الغد الأفضل: غد التحرر واستقلال الإرادة والحق في بناء تجربة مميزة على قاعدة احترام كرامة الإنسان ومنعة الدولة وتقدم المجتمع.
اذ لا تختلف تركيا تحت الحكم الإسلامي (الإخواني) في جوهر سياساتها تجاه إسرائيل، واستطراداً تجاه الغرب الداعم والحامي للمشروع الإسرائيلي، عنها في ظل الحكومات التي كانت تعتمد نهجاً مغايراً بل مناقضاً تماماً في سياستها الداخلية، الاقتصادية – الاجتماعية، لنهج حكومة أردوغان.
ما زالت تركيا عضواً رئيسياً فاعلاً في الحلف الأطلسي، وما تزال القواعد الأميركية فيها، وما تزال علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية مع إسرائيل ممتازة ومميزة، حتى أن الهجوم العسكري الإسرائيلي المتوحش على باخرة الحرية حاملة المساعدات الى غزة المحاصرة، بكل من أسقطه من ضحايا وألحقه بكرامة تركيا من مهانة، لم يؤثر على جوهر هذه العلاقات وآفاقها المستقبلية التي يرى فيها بعض العرب اجتماعاً عليهم ومحاصرة لتطلعاتهم في اتجاه التحرر والتحرير بدءاً بفلسطين وانتهاء بالمستقبل جميعاً.
بالمقابل فقد غاب أي ذكر لفلسطين عن برامج الانتفاضات المنتصرة، كما في تونس وليبيا (؟)، وكذلك عن الحملة الانتخابية الناجحة للإسلاميين في مصر، ناهيك ببرنامج الحكومة المغربية الجديدة التي يشكل فيها «الإسلاميون» الكتلة الوازنة وربما المرجحة.
ولقد لاحظ المتابعون حماسة شديدة لدى رموز الحكم الجديد في تونس للمعارضة السورية حين استضافوا مؤتمرها، واستمعوا إليهم وهم يشنون حملة شعواء على النظام في سوريا… ومع التفهم لهذا التعاطف من على البعد بين قوى لا تعرف بعضها بعضاً حق المعرفة، ولا يجمعها – من حيث المبدأ، وإذا ما استثنينا العلاقات الداخلية لبعض الإخوانيين – هدف سياسي مشترك، فإن التوحد في الموقف من نظام سياسي معين، وبغض النظر عن ممارساته القمعية تجاه شعبه، لا يكفي لبناء جبهة نضالية تتجاوز القارات بدولها وسياساتها، وتقفز من فوق إسرائيل، وبالتالي قضية فلسطين وحقوق شعبها فيها، لتتخذ موقفاً من «نظام» لا يشكل سقوطه بنداً في برنامج الحكم التونسي الإسلامي الجديد.
وهنا يصبح للقاء المسؤولين التوانسة الجدد مع رموز الطائفة اليهودية في تونس، دلالات تتجاوز التسامح الديني… خصوصاً أنه لم يصدر عن السلطة الجديدة ما يفيد بالقطع مع السياسة التي اعتمدها الطاغية بن علي متمثلة في إقامة تمثيل دبلوماسي مع إسرائيل.
كذلك فقد صدر عن ممثلين للسلطة الجديدة في ليبيا، مجهولة الهوية والمؤقتة دائماً والمنقسمة على ذاتها والمهددة بالتبعثر، ما يؤكد الالتزام بالشريعة حرفياً وصولاً الى الحجاب، ورطنوا بالإنكليزية وهم يعلنون شكرهم محرريهم بقيادة الحلف الأطلسي، وتقبلوا مباركات وزيرة الخارجية الأميركية السيدة هيلاري كلينتون، لكن احداً منهم لم ينطق كلمة فلسطين علناً، ولا أشار الى إسرائيل ولو إشارة عابرة.
… ونصل الى مصر وحقيقة أن «ميداناً» فيها قد صنع الثورة وأسقط رأس النظام، وأن «ميداناً» آخر كان يعقد الصفقات مع الرأس المؤقت للنظام ليؤمن المناخ الذي يمكنه من جني ثمار الانتفاضة التي لم يكن من أطلقها، ولكنه كان الأقدر على الإفادة من مناخها لتحقيق نصر سياسي باهر لم يكن ليتحقق له لولا «التواطؤ» شبه المعلن مع المجلس العسكري، بدءاً من الفتوى حول تعديل الدستور وتسلسل عملية بناء المؤسسات، وصولاً الى الانتخابات الرئاسية.
ومع التسليم بحق من اختارته الأكثرية ليمثلها في المجلس النيابي، عبر انتخابات حرة يملك الإسلاميون عدة اجتياحها بشعاراتهم وحسن تنظيمهم وقدرتهم على استقطاب عامة المؤمنين، والأهم: بإمكاناتهم المالية المحترمة، وعبر استخدامهم فزاعة البديل: إما الشيوعي الكافر، وإما السلفي الهمجي والمتخلف.
ومع التسليم بكفاءة الإخوان المسلمين في الإفادة من الفرص المتاحة، ومن قصور الوعي السياسي عند العسكر، ومن ثمار الانفتاح الأميركي على الحركات الإسلامية التي تخلت عن عدائها للإمبريالية والسياسة الأميركية والغربية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
مع التسليم بذلك كله، فلا بد من الإشارة إلى أن التنازلات التي قدمها الإسلاميون للإدارة الأميركية، ولإسرائيل تحديداً ومشروعاتها التوسعية التي لا تستثني لا القدس ولا المسجد الأقصى خاصة، لا تبقي أية قيمة سياسية – بالمعنى الوطني، فضلاً عن القومي – للشعارات التي خاض بها الإخوان الانتخابات، والتي كانت بمجملها «محلية» أو «أممية» وليست من منطقة وسط تحدد الهوية والقضية، وبالتالي فقد سقطت فلسطين بشكل متعمد تجنباً لاستفزاز إسرائيل وواشنطن.
في البداية ظهر انحراف أولي عبر أحاديث لبعض رموز السلفيين عن الالتزام المطلق بمعاهدة كمب دايفيد ومقتضيات الصلح مع العدو الإسرائيلي.
وحين ووجه هذا الانحراف بانتقادات خجولة تحفظ الإخوان فهربوا من تحديد أي موقف، حتى إذا جاءت الإشارة الاميركية اندفعوا يجهرون بالقول أن ليس في برنامجهم إعادة النظر في معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، وامتنعوا عن تصنيف إسرائيل كعدو. ثم إنهم لم يقولوا حرفاً واحداً عن ضرورة وقف النهب الإسرائيلي للبترول والغاز المصري، حتى لا يخدشوا عفاف معاهدات الصلح المنفرد..
هل ما يطالعنا الآن في الدول العربية بشمالي أفريقيا خصوصاً، نسخة أخرى معدلة من الإسلاميين، ليس فيها ما كان لدى القدامى منهم من منحى جهادي يتخذ من فلسطين عنواناً له؟
لقد كان الإسلاميون، تاريخياً، معادين للقومية، ويعتبرونها بدعة استعمارية اقتبسها بعض المضللين من العرب عن مستعمريهم ليخرجوا على الخلافة والسلطان العثماني، ولهذا نادوا بخلافة عربية ثم عدلوا فجعلوها مفتوحة أمام أمة الإسلام عامة.
ولكن الإسلاميين، أو معظمهم، كانوا معادين للصهيونية وبالتالي لإسرائيل، وقد قاتلوا تحت راية فلسطين ولهم فيها شهداء.
هل متى صار الخيار بين السلطة وفلسطين تصير المفاضلة صعبة حتى التخلي عن القضية المقدسة؟
ولماذا السلطة، إذن، إذا ما جاءت كمنحة أميركية شرطها الأول التخلي عن القضية، أي عن الهوية… والإسلام فيها؟
ذلك هو السؤال المطروح على إسلاميي السلطة الجديدة في مصر وتونس وليبيا والأقطار الأخرى التي تموج بالثورة لأهداف تتجاوز السلطة الى جوهر القضية.
ففلسطين قضية داخلية في مصر كما في كل بلد عربي… وأبسط الأدلة امتلاء الجدران في المدن والأرياف بصور الشهداء الذين قاتلوا حتى الاستشهاد لحماية الاستقلال والثروة الوطنية والحق ببناء غدٍ أفضل، أبرز عناوينه، تحرير الإرادة كمدخل لتحرير الأرض والثروة الوطنية وبناء الديموقراطية، في ظل نظام يحمي حرية استقلال الدولة وقرارها المستقل.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية