تبدو صورة الوطن العربي اليوم، بمشرقه ومغربه، مختلفة تماماً عنها في مثل هذه الأيام لثلاث سنوات مضت، هي العمر الافتراضي لما أطلق عليه تسمية «الربيع العربي». لقد اختفى العديد من الأنظمة التي كانت قائمة، وتصدرت الصورة قوى جديدة تحاول إعادة صياغة «النظام» في بلادها بهذا القدر أو ذاك من النجاح.
لم تكن عملية التغيير سهلة دائماً، ولا هي تمت ـ حيث تمت ـ وفق معايير الثورة الكلاسيكية، ولا هي نجحت بعد في إقامة «النظام الجديد». لا هي قطعت تماماً مع الماضي، ولا هي استطاعت أن تقدم صورة واضحة للمستقبل.
الكل ينسب ما حدث إلى «الربيع العربي» وهي تسمية غامضة وشديدة الالتباس تجعل هذا الربيع مجهول الأب، مجهول خط السير ومجهول الغايات وصولاً إلى هدفه الأخير. من يستطيع رسم المستقبل اعتماداً على توصيف غامض لحركة تغيير بلا قيادة واضحة ولا عقيدة محددة وبرنامج معلن صاغه من يفترض في ذاته القدرة على تنفيذه بدعم من قوى حقيقية في المجتمع اعتمدته بإرادتها الحرة؟
وبغض النظر عن أن تسمية «الربيع العربي» ليست عربية المصدر، وأنها وصلتنا مترجمة، فإن الانتفاضات التي توالت مفجرة أنظمة القهر والتخلف في دول عربية عدة لم تكن موحدة، لا في هوية الذين كانوا الطلائع في مسيرتها، ولا في أغراض الذين حاولوا فنجحوا أحياناً وأخفقوا أحياناً في حرف هذه الانتفاضات عن أهدافها… وما جرى لانتفاضة الميدان في مصر شاهد وشهيد!
إن ما وقع في سوريا ولها مختلف جداً عما وقع لتونس وفيها، ومختلف إلى أقصى حد مع ما وقع في ليبيا ولها… وبالمقابل فإن ما وقع في مصر ولها يمكن أن يشكل تحولاً جذرياً في خط سير الأحداث في المنطقة عموماً.
في أي حال لا يمكن الفصل في هذه الموجة العارمة من التحولات في المنطقة عموماً بين الطفرة الإسلامية التي حاولت مصادرة الانتفاضة الشعبية في أكثر من بلد عربي، وبالسلاح أحياناً، وبين قوى «الميدان» التي اجتهدت في حماية «الثورة» بصدورها وبثباتها في الميدان حماية لحقها في «دولة وطنية» تؤمن لها طريق الوصول إلى غدها الأفضل.
وإذا ما سلمنا أن سوريا قد شهدت التفجرات الأولى للغضب الشعبي ضد عنف النظام وعسفه، فإن التحولات التي طرأت على مسار «الانتفاضة» قد أخرجتها من سياقها الثوري وحولتها إلى حرب أهلية أممية مرشحة للتمدد إلى ما حول سوريا، بذريعة أن السلفية الإسلامية لا تعترف بالحدود.. فالإسلام أممي ورسالته موجهة للناس كافة… وهكذا دخل الشيشاني والتركماني والوافدون من الجزيرة والخليج العربي في الحرب لإعادة أسلمة المسلمين الذين أضلتهم الجهالة والخروج على أصول الدين، تحت راية الخلافة. وفي غمرة هذا «الجهاد» لا بأس بالمساعدات تأتي من الكفار الأميركيين أو الفرنسيين أو البريطانيين أو من الإخوة في الدين في تركيا… ولا بأس من توسيع التنظيم (داعش) ليشمل بجهاده العراق والشام… كذلك لا بأس من سيل من التفجيرات بالعبوات الناسفة أو بالانتحاريين (في سبيل الله) يمكن أن يمتد إلى لبنان بذريعة الرد على مشاركة «حزب الله» في حرب النظام السوري.
وها هو العراق على شفا التمزق في غمرة حرب أهلية تستهدف وحدة المسلمين فتقسمهم سنة وشيعة (وهم المتداخلون حسباً ونسباً والمنتمون إلى العشائر ذاتها ولو اختلفوا مذهبياً..).
أما لبنان فيعيش شعبه في قلب الخوف من الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم في الأسواق والضواحي المكتظة، طلباً للجنة، متسببين في رفع منسوب التطرف المذهبي الذي يكاد يخرج الجميع من دينهم الحنيف.
فإذا ما انتقلنا إلى الشمال الأفريقي طالعتنا صورة ليبيا غارقة في دماء أبنائها، وكلهم من المسلمين السنة وأكثريتهم الساحقة على المذهب المالكي، ومع ذلك تتوالى الاشتباكات بين الأهالي (وأساساً بين مشروع الدولة الجديدة وبين قبائل الدولة المسقطة) وترفع الشعارات الإسلامية المتطرفة في وجوه المسلمين… وتتهاوى صورة «الدولة الجديدة» تحت ضغط المحاولات الانفصالية شرقاً وغرباً وجنوباً، كأنما لكل محافظة إسلامها.
أما في تونس فيبدو أن «الإخوان المسلمين» فيها قد سلموا، بعد معاندة طويلة، بالشراكة مع القوى الوطنية، فتم إقرار مسودة الدستور الجديد، وتمت إعادة تشكيل الحكومة الجامعة بعد مماحكة طويلة لحفظ الحصة الوازنة للإخوان.
وبالتأكيد فإن الانتفاضة الثانية في مصر التي أسقطت حكم «الإخوان» بالضربة القاضية وأهاجت المصريين عموماً ضد هذا التنظيم المتخلف فكراً وممارسة، قد نبهت «إخوان» تونس إلى ما ينتظرهم إذا هم واصلوا محاولاتهم لاحتكار السلطة وكأن الثورة التي انطلقت من دونهم وفي غيابهم هي ثورتهم لوحدهم وسلطتها لهم وحدهم.
ولقد أمكن للسلطة، التي قامت بقوة الأمر الواقع في تونس، أن تتجنب ما تورط فيه «الإخوان» في مصر بعد خسارتهم السلطة من أعمال عنف وخروج على الدولة، وأن تبتعد عما ارتكبته جماعات «داعش» وسائر تنظيمات التطرف والإرهاب باسم الإسلام في سوريا من إحراق لأسباب العمران التي كانت أنجزتها الدولة كالمصانع والمستشفيات والمباني الجامعية والإدارات والمؤسسات الحكومية.
أما في مصر فإن استنقاذ الدولة ومؤسساتها إنما تم بفضل الانتفاضة الثانية في آخر شهر حزيران من العام الماضي، ثم التظاهرة المليونية غير المسبوقة التي ملأت شوارع المدن المصرية كافة بجموع الغاضبين من رافضي حكم «الإخوان».
ومع أن مناصري «الإخوان» ما زالوا يملأون صباحات أيام الجمعة بهتافاتهم وتظاهراتهم المحدودة المطالبة بإخراج «الرئيس الشرعي ورفاقه» من السجن، ومنع محاكمتهم، ويكابرون فيرفضون الاعتراف بالأمر الواقع، ويتجاوزون أحلامهم وأوهامهم باستعادة السلطة، إلا أن مصر تبدو وكأنها قد اختارت طريقها وهي ماضية قدماً في قلب الصعب.
وبالتأكيد فإن من سوف يتسلم الحكم في مصر، بعد انتهاء الفترة الانتقالية، التي أنجز في التمهيد لها الدستور الجديد باستفتاء شعبي مشهود، سيواجه أوضاعاً في غاية الصعوبة، اقتصادياً بالأساس، ثم سياسياً، فضلاً عن حالات التفلت الأمني، وقد بلغت في الآونة الأخيرة حدود القتل العشوائي والتعدي المتواصل على قوى الجيش والأمن، كما تسببت في الكثير من عمليات التخريب، فضلاً عن عمليات السلب والنهب التي أفاد «أبطالها» من الاضطراب الأمني لخلق البلبلة والفزع في الشارع.
ويتابع العرب جميعاً، بأهل اليمين فيهم، وهم أهل الثروة الهائلة والقدرات المفتوحة نتيجة تراكم الوفر النفطي، وأهل الوسط واليسار، باهتمام بالغ وكثير من القلق تطور الأوضاع في مصر، والنقاش الحيوي الجاري حول تقدم المشير عبد الفتاح السيسي إلى رئاسة الدولة.
أما مصادر القلق فتتجاوز صعوبات الأوضاع القائمة في مصر اليوم، إلى الالتزامات والقيود التي سيرثها «العهد الجديد» عن العهود الماضية، وأخطرها ما يتصل بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وفيها المساعدات العسكرية وبعثات التدريب لضباط الجيش المصري، ثم ما يتصل بالعلاقة مع دولة العدو الإسرائيلي، بكل فصولها الموجعة.
ويتوقف كثير من المراقبين أمام هذه الحماسة الفائضة عن التوقع التي تبديها السعودية وبعض أقطار الخليج (في ما عدا قطر) للنظام الجديد في مصر… فالتجربة علمت الجميع أن الثورة والثروة لا يلتقيان، وأن التغيير والنفط لا يمكن ضبطهما في سياق واحد.
ومع أن الكل يعرف أن ثورة مصر ليست للبيع وأن ثروة أصحاب الثروات لا يمكن أن تشتري إرادة التغيير وقواها الشعبية، إلا أن محاولات الاحتواء ـ وهي ظاهرة ومكشوفة ـ تثير القلق، وتفرض قدراً من الحذر والترقب.
إن عملية التغيير تاريخ كامل..
ونحن بعد في الصفحات الأولى منه.
والمهم أن يصنع العرب ربيعهم، لا أن يأتيهم الربيع معلباً، بإرادة مصنعيه، ويفرض عليهم مستقبلاً لم يطلبوه ويحدد الطريق إلى غدهم.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية