طلال سلمان

مع الشروق «عدنـان» و« قحطـان» يتواجهـان فـي لنـدن: عـرب النفـط يموّلـون عـودة الاحتـلال محـرراً!!

دار الفلك بالعرب والمسلمين دورة كاملة، وها هي لندن تستعيد، مرة أخرى، دورها كعاصمة للشؤون العربية والإسلامية، فضلاً عن مرجعيتها في الفصل بين العرب العاربة والعرب المستعربة..
الفارق أنها في المرة الأولى، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الأولى، كانت عاصمة لإمبراطورية لا تغيب عن أملاكها الشمس، وبالتالي مركز القرار الدولي، فمزقت الأرض العربية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادئ الى كيانات سياسية متنابذة، متخاصمة في الغالب… بعضها لا يستطيع أن يعيش إلا كمحمية (إمارة الأردن التي صيرتها نكبة فلسطين مملكة)، وبعضها الآخر تشعر دائماً أنها «مبتورة» بعدما رسمت خرائطها وفق المصالح الإمبراطورية (والمشروع الإسرائيلي) بمعزل عن حقائق الحياة وأبسطها وحدة الأرض ووحدة الشعب وتوافر الموارد، ثم انسجامها مع محيطها الذي كان بعضاً منها فاقتطع، وكان بعضها الآخر منها فمنح لغيرها.
أما في المرة الثانية فقد تبدت لندن «دار خبرة» كلفها الأميركيون أن تجمع فيها دولاً عربية كانت بمعظمها من مستعمراتها ولها فيها تجربة عريضة، من أجل مناقشة الأوضاع المتدهورة في اليمن والتي تهدد هذه البلاد التي لما تكمل نصف القرن من عمرها كجمهورية، ولما تبلغ سن الرشد كدولة موحدة لشمالها (الذي كان مملكة متوكلية يحكمها إمام من القرون الوسطى)، ولجنوبها الذي كان مجموعة من المحميات تحت الاستعمار البريطاني، لم تتحرر إلا بالثورة، فأقيمت فيها «جمهورية اشتراكية» على النمط السوفياتي وتحت رعايته، قبل أن يستعيدها الشمال بالحرب لتتوحد اليمن دولة واحدة، أسقطت من اسمها هويتها «العربية» لأمر لا يدركه إلا نظامها. (وكان اسمها قبل التوحيد: الجمهورية العربية اليمنية… فصارت بعده «جمهورية اليمن»).
في لندن وخلال ثمان وأربعين ساعة، عقد بطلب من الإدارة الأميركية وتحت رعايتها، مؤتمران متعاقبان بمشاركة دولية كثيفة (أكثر من أربعين دولة): الأول لعرض أوضاع اليمن وخطر سقوطه قاعدة للقاعدة، والثاني لاستعراض الوضع في أفغانستان وفشل الاحتلال الأميركي بالحرب في تثبيت النظام الذي أقامه بدباباته وطائراته وصواريخه في كابول قبل تسع سنوات… وخطر سقوطه لحساب «طالبان» حليف القاعدة وغطائها المحلي.
في المؤتمرين كانت لندن دار ضيافة، راضية بأن تقدم ـ بالأجر ـ خبرتها للسيد الأميركي، وكان وزراء خارجية دول النفط العربية الذين لبوا النداء عجالى، يعرفون أن دولهم الغنية سوف تتكفل بنفقات الوصاية الأميركية التي يطلبونها على اليمن (ولا تعترض عليها دولته)، وكذلك بتحمل كلفة الاحتلال الأميركية لأفغانستان، ومن ضمنها شراء ولاء «طالبان» لفسخها عن «القاعدة» بحيث يسهل حصارها والانتصار عليها.
كان المشهد فريداً في بابه: النظام الحاكم في اليمن الذي دفع شعبه من دمائه ثمن استقلاله وتوحيد دولته، يطالب الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول الغرب، بأن تضعه تحت وصايتها وإلا فإن «القاعدة» ستستولي عليه وتحوله الى أفغانستان جديدة.
فأما الأميركيون فيتمنعون، وأما الأوروبيون فيحاولون التملص من ضريبة جديدة ستفرضها واشنطن عليهم، وأما أهل النظام العربي ـ والنفطيون منهم على وجه التحديد ـ فيعلنون استعدادهم لدفع كلفة التطهير الأميركي لليمن من القاعدة (والحوثيين) بشرط ألا يظهروا في الصورة إلا… كمتبرعين يهبون لنجدة «الجمهورية» اليتيمة في كل الجزيرة العربية.
للتذكير: منذ إقامة مجلس التعاون الخليجي (في 25 ايار ـ مايو سنة 1981) وهذه الدول التي اصطنع بعضها على عجل، ثم جمعت فتجمعت حتى تصمد في وجه فقراء العرب، كما في وجه النزعة الوحدوية عند أهلها، ترفض الاعتراف بأن اليمن هو بعض شبه جزيرة العرب، ثم إنه ـ تاريخياً ـ الدولة الوحيدة بينها، والشعب الوحيد العامل (والذي كان له دور عظيم في بناء أقطارها) وبالتالي فقد ظلت ترفض ضمه الى المجلس المذهب، وتبخل عليه بالمساعدات التي يحتاجها، وتتقصد إذلاله فتنبذه «كالبعير الأجرب».
وإذا كان لمصر عذرها، في تجربتها المرة في حرب تثبيت الجمهورية في اليمن بكلفة عالية استنزفت خزينتها وجيشها، بعد ثورة شعبها في 26 أيلول ـ سبتمبر1962، ولأسباب لا مجال لبحثها هنا، ثم في ضعف إمكاناتها مقارنة بإمكانات دول النفط العربية، فليس لهذه أي عذر في استبعاد اليمن التي كاد نظامها يتحول ويحولها الى ملكية وراثية، وفي إذلالها، بحيث تفجر شعبها بالنقمة.
وهكذا تصاعدت الدعوات الانفصالية، بين الشمال والجنوب، كما تنبهت بعض المناطق والعديد من القبائل الى استبعادها عن السلطة، فتنامت حركة إعادة الاعتبار الى النظام الإمامي أو ما يشابهه، بقيادة الحوثيين، واتسع الخرق مفسحاً في المجال أمام كل راغب وكل قادر على التدخل أن يجد لنفسها موقعاً في هذه الجمهورية المتهالكة، وقد هدها الفقر ودكتاتورية الفرد المستقوي بعشيرته و«جيش الشعب» على الشعب المقهور.
… وكانت انتفاضة الحوثيين الذين كانت السلطة قد قربتهم، بداية، وأغوتهم بأن يناصروها على خصومها، فلما تنصلت من تعهداتها انقلبوا عليها فطاردتهم فقاتلوها.. ولما اشتد عليهم الحصار نفذوا الى مناطق حدودية كانت يمنية ذات يوم ثم صار أو صيرت سعودية، مع أن أهلها أهلهم وأرضها كانت أرضهم… وهكذا وجدت السعودية نفسها متورطة في «حرب» لم تكن مهيأة لها.
بالمقابل كان الأهالي في جنوبي اليمن الذين اقتتلوا في ما بينهم، قديماً، حتى أسقطوا «جمهوريتهم الاشتراكية»، ثم اقتيدوا الى حرب مع الشمال خسروها فارتضوا الانضواء في دولة الوحدة، وكان لدى بعض قياداتهم السياسية الطموح الى الرئاسة، فإن تعذر الوصول اليها تحت عنوان «حق المشاركة «رفع على الفور» الحق في الانفصال»، واستعادة جمهوريتهم التي ذهب «راعيها» و«حاميها» والذي جعلها قاعدة مطلة على بحر العرب والجزيرة العربية والمحيط الهندي جميعاً (الاتحاد السوفياتي).
[[[[[[
من باب الطرافة، أستذكر حواراً لطيفاً جرى، قبل سنوات، مع أحد وجوه النظام في «جمهورية اليمن الديموقراطي»، التي دالت دولتها، وقد غدا بعد الوحدة رئيساً للحكومة في جمهورية الوحدة، عبد القادر باجمال..
كان الخلاف، يومها، محتدماً بين دولة الجنوب اليمني والمملكة العربية السعودية، حول ترسيم الحدود… وكانت عدن تتهم المملكة المذهبة بأنها تطمع ببعض المناطق التي تختزن النفط في الجنوب، وتريد الوصول الى حضرموت بأي ثمن وضمها، ليكون لها منفذ على بحر العرب والمحيطات..
روى عبد القادر باجمال أن دولاً عدة قد بذلت مساعيها الحميدة، فتم الاتفاق على التحكيم.
قال: من أطرف ما حصل أننا قد «اهتدينا» أو أنه قد تم إرشادنا الى محام قدير في مسائل التحكيم الدولي هو جيمس بيكر (وزير الخارجية الأميركية، سابقا) في حين وجد من يرشد المملكة المذهبة الى محام خطير هو هنري كيسنجر (الذي كان هو الآخر وزيراً سابقاً للخارجية الأميركية)..
.. وضحك عبد القادر باجمال وهو يضيف:
ـ وهكذا اكتشفنا أن البروتستنتي جيمس بيكر هو «قحطاني» مئة في المئة، كما أهل اليمن، بينما اكتشف السعوديون أن اليهودي هنري كيسنجر هو «عدناني» مئة في المئة.
هل من الضروري التذكير بأن اليمنيين يعتبرون أنفسهم قحطانيين، وأن أهل شمالي الجزيرة العربية يعتبرون أنفسهم «عدنانيين»، وهي تقسيمات في النسب تعود الى ما قبل الإسلام.
[[[[[[
اختتم المؤتمران الدوليان حول عروبة اليمن كما حول الحكم الإسلامي في أفغانستان، واللذان عقدا تحت الرعاية الأميركية في لندن، بقرارات تنص على تقديم الدعم الكافي لهاتين الدولتين المهدد فيهما النظام بالسقوط وسيطرة «القاعدة» على البلدين ـ المفتاحين، كل في منطقته الحيوية.
وبديهي أن «الشهامة العربية» ستقضي بأن تتولى دول النفط العربية دفع تحصين هاتين الدولتين بالمال، على أن تبقى القيادة أميركية بطبيعة الحال.
ملاحظة أولى: بينما ثلث وزراء خارجية الدول العربية (الغنية أساسا) يجتمعون في لندن لكي يدفعوا، مرة أخرى، كلفة الاحتلال الأميركي لأفغانستان (ومعها الاحتلال الأميركي للعراق) وكلفة التحصين الأميركي لليمن، تم رصد الوقائع التالية:
وقف الرئيس الأميركي الأسمر ذو الجذور الأفريقية ـ الإسلامية أمام الكونغرس يتلو خطاب العرش، المعروف باسم «خطاب الاتحاد»… فسقط سهواً أي ذكر لفلسطين والاحتلال الإسرائيلي لأرضها ومصيرها، بينما الحكومة الإسرائيلية ماضية في تحصين «دولة يهود العالم» بمئات ألوف المستوطنين المستقدمين من أربع رياح الأرض، مع إعلان صريح بنيتها لجلب مليون مستوطن جديد..
تجدر الإشارة الى أن كلمات خطاب الاتحاد وصلت الى 5700 كلمة.
في الوقت ذاته كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يغرس أشجاراً في مستوطنتي «غوش عتسيون» و«معاليه أدوميم» قرب القدس، التي يجمع قادة إسرائيل على أنها ستبقى يهودية، الى الأبد، ويواصلون طرد أهلها العرب منها، وكذلك في مستوطنة أرييل قرب نابلس في شمال الضفة الغربية، ناسفاً كل التعهدات التي أعطتها واشنطن، ذات يوم، بوقف الاستيطان… كشرط أولي لا بد منه للحديث في مشروع «الدولة الفلسطينية» التي تتبدى الآن في موقع السراب… بل ان ما يجري هو هدم وشطب كل ما يتصل أو يذكر بفلسطين العربية لاستكمال إقامة إسرائيل دولة يهود العالم.
ملاحظة ثانية: لم يجد من دعا الى اللــقاء الدولي حول اليمن مبرراً لدعوة الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، للحضور ولو كمراقب…
وجيد أن الأمين العام قد سجل تحفظه، مدركاً أن «ثورته» لن تؤثر في تبديل حرف واحد، فبين مهام مؤتمر لندن حول العرب أن يكرس إلغاء أي دور لجامعة الدول العربية في … الشؤون العربية!
أما بالنسبة لأفغانستان فقد أوصى المؤتمر الدولي بتعزيز الوجود العسكري الأميركي ـ الأطلسي فيها في انتظار جهوز الأفغان لإقامة دولتهم، وهذا الأمر قد يستغرق بين 10 و 15 سنة… وكأن هذا الشعب المقاتل والمتمسك بدينه لم يعرف الدولة عبر تاريخه الطويل!
… وأما الاحتلال الأميركي للعراق فيحتاج الى مؤتمر دولي آخر، وفي لندن ذاتها، لكي تقدم الفاتورة للمانحين العرب، من أهل النفط الذين يبخلون على حياة أهلهم بالقليل فتكون النتيجة حروباً تكلفهم الكثير الكثير، سلاحاً وعتاداً واستشارات قانونية للفصل بين عدنان وقحطان!

([) ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

Exit mobile version