طلال سلمان

مع الشروق صـورة مقرّبـة عـن العـراق تحـت الاحتـلال: الكيانـات ـ الطوائـف ـ الحـرب الأهليـة

على امتداد دهر الحرب الأهلية في لبنان كان يمكن قراءة الأحوال العربية من خلال التطورات الدموية وتزايد الحدة فيها أو الميل نحو الهدوء تمهيداً لتسوية محتملة، ولو مؤقتة، في انتظار أن يحين موعد «الصفقة» الكاملة التي كان مؤكداً أنها تجري في عواصم التأثير، قريبة من بيروت أو بعيدة جداً عنها.
لم تكن مبالغة أن يقال إن التفاوض كان يجري بالدم: كلما اصطدم بعقبة ما، كأن يتشدد هذا الطرف أو ذاك، أو يتدخل عنصر «مشاغب» لم يكن ملحوظاً له دور معطل، تعنف المعارك ويتساقط الشهداء ضحايا تعقيدات في شروط الصفقة… حتى إذا ما تم استيعاب العامل الطارئ عاد الأطراف الى الطاولة (غير المرئية) وقد عدلوا «شروطهم» بما يتناسب مع التطور الجديد!
ها هي المحنة تتكرر، أفظع وأقسى، في العراق الذي أنهكه الطغيان وخلخل وحدته الوطنية ثم أورثه للاحتلال الأميركي فتولاه بعنايته الفائقة حتى حوّله الى جحيم يحترق فيه ما تبقى من دولته ووحدة شعبه وقدرته على الصمود كوطن وبالتالي ككيان سياسي موحد.
العنوان شبه الثابت على صدر الصفحات الأولى من الصحف، عربية وأجنبية، منذ شهور، يجسد العجز الفاضح عن تشكيل حكومة، وبالتالي عن «انتخاب» أو اختيار رئيس جديد للجمهورية (أو مجلس رئاسي)، ومن ثم انتخاب شخصية رئيس المجلس النيابي أو اختيارها أو التوافق عليها.
ذلك أن الانتخابات النيابية التي أجريت في ظروف معلومة وضمن ترتيبات خاصة، فرضت أن يكون التنافس ضمن «كيانات سياسية» مؤتلفة بالاضطرار، قد انتهت الى تكريس الانشقاق الطائفي ـ المذهبي والعنصري: لقد انتخب العرب العرب، والكرد الكرد… وبين العرب انتخب الشيعة مرشحيهم الشيعة، وانتخب السنة مرشحيهم السنة! هكذا جاء «مشروع» المجلس النيابي الجديد مشروخاً، يفتقد وحدته كمؤسسة جامعة، وبالتالي قدرته على تجسيد الوحدة الوطنية.
أما الشيعة، وهم الأكثرية العددية، فمتشوقون الى انتزاع الاعتراف بهم كأكثرية، وتعويض دهر الغبن الذي لحق بهم على مستوى السلطة منذ إقامة الكيان السياسي للعراق (الحديث) مع دخول الاحتلال البريطاني بعد تجزئة المشرق العربي.. عشية انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في العام 1920.
لقد واجه العراقيون الاحتلال موحدين في الثورة الشعبية الأولى (ثورة العشرين).. وبعد ضرب تلك الثورة، والاستعانة بالهاشميين عبر تنصيب فيصل الأول ابن الشريف حسين ملكاً على أرض الرافدين، باشر الاحتلال لعبته التقليدية: «فرّق تسد»، فاستبعد الشيعة عن السلطة، مستفيداً من التباس مذهب الملك الهاشمي، ومن واقع أن الشيعة أهل ريف في حين أن السنة أهل مدن، وأهل سلطة، نتيجة تراكمات تاريخية معروفة (الخلافة الأموية، ثم العباسية، ثم المماليك فالأتراك الخ)..
ثم ان الاحتلال الأميركي قد دخل العراق بسهولة مفجعة.. وكان لذلك أسباب واضحة: فالجيش مدمر، ليس فيه من قوة عسكرية فعلية إلا الحرس الجمهوري، والشعب مجوع ومضطهد، ممزقة وحدته، مدنه خرائب، بما في ذلك بغداد، والعلاقات بين «مكوناته» مختلة. ذلك أن القمع قد اتخذ طابعاً عنصرياً مع الكرد في الشمال، وبالمقابل فقد اتخذ طابعاً مذهبياً مع الشيعة في الجنوب والوسط ومعظم بغداد… دون أن يعني ذلك أن «السنة» في الغرب كانوا ينعمون برفاه الامتياز: وحدهم أقارب صدام حسين أو المقربون منه عاشوا في النعيم، بينما غرقت المدن في بؤس غير مسبوق، فتناثرت الضواحي العشوائية أسواراً من الفقراء وأهالي المقتولين في الحروب العبثية، من حول بغداد والبصرة والنجف والحلة وواسط… أما الأسعد حالاً فتمثل في الملايين الذين هجروا العراق أو هجرهم البطش منه فلاذوا بالمنافي القريبة، وبالذات إيران وسوريا والأردن الى حد ما.
والملحوظ أن التهجير قد ارتدى هو الآخر طابعاً مذهبياً، فذهب السنة الى السنة والشيعة الى الشيعة، إلا من أسعده قدره بتأشيرة الى دولة أوروبية، بريطانيا أو الشمال الأوروبي (اسوج ـ نروج الدانمارك) أو الولايات المتحدة الأميركية.
ولقد طالت الهجرة واستطالت حتى فقد الناس صلاتهم بواقع بلادهم أو كادوا..
وهكذا فإن العائدين مع الاحتلال الأميركي، وأحياناً فوق دباباته، انما عادوا الى بلاد لا تعرفهم ولا هم يعرفونها فعلياً.
ثم إن العراقيين كانوا قد هجروا الحياة السياسية، بالأمر، منذ أمد طويل حتى غدوا أشتاتاً لا يجمع بينهم جامع من فكر أو اهتمام بالشأن العام: فالأمر لصاحب الأمر، الحزب حزبه الشخصي، والنقابات قصور من كرتون تشكلها المخابرات، و«الأحزاب» الحليفة لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي لصاحبه صدام حسين.
وعلى المستوى الشعبي كان حجم الدمار فظيعاً: تسبب القمع في تدمير الروابط جميعاً، السياسية والنقابية، العائلية والشخصية. كان «المخبر» طرفاً ثالثاً في العلاقة بين أي اثنين، حتى بين الرجل وزوجته، وبين الأب وابنه والأم وابنتها.
كان الكرد في مقهرهم الشمالي قد نالوا حماية أميركية معلنة ابتداء من 1991، اثر الحرب على صدام حسين لإخراجه من الكويت التي كان غزاها انتقاماً من شيوخ النفط الذين دفعوه الى شن الحرب ضد إيران، والتي امتدت لثماني سنوات دموية منهكة ذهب ضحيتها ملايين القتلى والجرحى، فضلاً عن الخراب الشامل الذي أصاب البلدين الجارين.. ثم تنكروا له ولم يعوضوه ذهباً بدل الدم المبذول فيها!
ولقد شجعت الحماية الأميركية وتجسيم الخسائر التي أصابت المناطق الكردية في شمال العراق، ومعها شيء من التعاطف الدولي والمساندة الإسرائيلية الواضحة، على تعاظم طموح الأكراد الى الاستقلال في دولة تكون خالصة لهم، ولو من دون إعلان رسمي مباشر.
أما في الجنوب فكان حجم التدمير المنهجي هائلاً: فلقد كان هذا الجنوب بعض أرض الحرب التي شنها صدام على إيران، أهله هم ضحاياها المباشرون، سواء في مناطقهم التي تم تخريبها تماماً، أو في أعداد من فقدوا من أبنائهم سواء كجنود أو عبر الغارات وعملية القصف الصاروخي والمدفعي والعمليات الخاصة… ثم عبر الانتقام المريع الذي باشره ضدهم صدام حسين اثر الحرب الأميركية (العربية) عليه لإخراجه من الكويت.
ولقد امتد الخراب الى كل ناحية في العراق، بغير تمييز بين طوائفه وعناصره ومكوناته الأهلية: في العمارة، في التعليم، في الصحة، في العلاقات الاجتماعية، في الاقتصاد والاجتماع، وصولاً الى القوات المسلحة التي أنهكت في مسلسل لا ينتهي من المغامرات العسكرية البائسة وفي حملات القمع الدموية ضد… شعبها.
فلنتصور آثار ذلك كله على الشعب في وحدته، في احتياجاته، قبل أن نتنبه الى واقع التشرذم السياسي في ظل حقيقة مؤكدة: ان العائدين من المنافي هم بمجملهم مجموعة من الطامحين الى القيادة في بلد غابوا عنه طويلاً حتى نسيه أهلهم فيه أو كادوا… ثم إنهم يتنافسون في ما بينهم بمدد النفي أو الاغتراب القسري، حيث كانوا معطلين عن الفعل وعن التواصل مع «شعبهم» الأسير… فضلاً عن أنهم كانوا يتنافسون في ما بينهم على التقرب من الحاكم الجديد: المحتل الأميركي… مع مراعاة عدم إغضاب إيران، الجارة القوية، وقد كان عدد كبير منهم لاجئاً فيها، ومن ثم التودد الى أهل النفط في السعودية والخليج، من دون التنكر لسوريا التي استضافت أكثريتهم لعقد وأحياناً لعقدين من الزمان.
[[[[[[
لعل هذه اللوحة، تعطي صورة عن عراق اليوم… ولقد تجنبنا قصداً أسماء الأشخاص أو الكتل السياسية التي أنشئت على عجل، غالباً، وبغير مرتكزات فكرية أو برامج سياسية، وتحت ضغط الاحتلال الأميركي الذي «أنجز مهمته» في تدمير العراق فشطبه فعلياً عن خريطة التأثير، وشرع أبوابه أمام كارتل النهابين من الداخل (قيادات سياسية وسماسرة وباعة أوطان) ومن الخارج دولاً (وفي الطليعة إسرائيل) وشركات تريد النفط والاستثمار السريع العائد وبغير مخاطرات.
لتلخيص المشهد العراقي، يمكن القول إن «الأكراد» قد استقلوا بشمالهم، وهم يعملون بدأب لضم كركوك إليه، والموصل (ان استطاعوا)، ثم إنهم يريدون الاحتفاظ برئاسة الدولة وتحويل الاستثناء (بترئيس جلال الطالباني في الفترة السابقة) الى عرف يعتمد في كل الأزمنة، فضلاً عن وزارة الخارجية، وعن قيادة العديد من ألوية الجيش والشرطة والمخابرات التي تولوها مؤقتاً، لأنهم كانوا الأكثر تماسكاً في حضورهم بعد الاحتلال الأميركي.
أما الشيعة الذين يرون أنهم قد حرموا من تولي الحكم، برغم كونهم الأكثرية، منذ قيام الدولة العراقية، فيريدون رئاسة الحكومة ومجموعة من مواقع القرار، ليس فقط للتعويض عن الماضي بل أساساً لضمان مستقبلهم في وطنهم .
وأما السنة الذين يرون أنهم يجبرون على دفع ثمن خطايا صدام حسين مرتين، فإنهم يطالبون بحصتهم من كعكة النظام توازي حجمهم في البلاد وأهليتهم، وهم لا يعتبرون أن رئاسة المجلس النيابي مع بعض الوزارات والإدارات تحقق مطلبهم… خصوصاً أن الكرد قد انشقوا عن عموم العراقيين واعتبروا أنفسهم «قومية» بكيان خاص، ولا يقبلون أن يحتسبوا ضمن السنة ولا أن يقاسمهم السنة ما يفترضون انه حقهم، فضلاً عن كونه ـ في بعض جوانبه ـ تعويضاً عما قاسوه في ماضيهم.
[[[[[[
المسألة في العراق أخطر من أن تكون توزيع حصص في «المواقع السيادية» بين مكوناته الطائفية والمذهبية والعنصرية.
إن الاحتلال الأميركي قد أنجز مهمته بنجاح باهر، متمماً ما حققه صدام حسين بكفاءة منقطعة النظير: إنه يلوح بمغادرة العراق وقد حوله الى أرض محروقة بالحرب الأهلية، التي يمكن أن تتفجر في أي لحظة، والتي يمكن أن تتمدد الى ما جاوره من أقطار.
وليس من مغيث أو منجد قادر مؤهل على التقدم لنصرة العراق ومنع «الفتنة الكبرى» من أن تتجدد لتدمر ما تبقى من هوية هذه الأرض وأهلها، وإغراق هذه «الدولة» التي استنبتت على عجل في دماء من كانوا يحلمون بأن يكونوا «مواطنيها».
وبهذا تفرغ الساحة لإسرائيل لتكون دولة أولئك الأقوام الذين كانوا في التاريخ عرباً، والذين يعجزون الآن عن حماية وجودهم كبشر، ناهيك عن أن يحموا أوطانهم بعدما فشلوا في أن ينشئوا دولهم فيها.
وحبل الدم موصول بين العراق ولبنان واليمن مروراً بأقطار الخليج، قبل الحديث عن مخاطر التصادم مع إيران (لأسباب لا علاقة لها بالمصلحة العربية أو المستقبل العربي)، ودائماً لتحقيق ما عجز الاحتلال الأميركي عن تحقيقه بالقوة.
ومن أسف، فلا منجد ولا مغيث تلتفت اليه الأم العراقية الآن لتنادي: وامعتصماه!
([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version