طلال سلمان

مع الشروق سقوط أسطورة بن لادن: العرب يدفعون ضريبة الدم مرتين!

هي مجموعة من المصادفات القدرية أن يتزامن الإعلان الاميركي عن النجاح في اغتيال أسامة بن لادن مع تفجر سلسلة من مشاريع الحروب الأهلية التي يتولى قياداتها «سلفيون» و«أصوليون» من متخرجي المدرسة ذاتها التي ترعرع فيها قائد تنظيم «القاعدة». ففي مصر وتونس والجزائر والمغرب وسوريا، وحتى في لبنان، كانت مجموعات من هؤلاء الذين يكفرون كل من اختلف معهم في الرأي تشن حملات دموية ذهب ضحيتها مئات الضحايا، بينهم نساء وأطفال، ويدمرون دور عبادة، ويعرضون أمن بلادهم للخطر الشديد، مما يمهد للهيمنة الأجنبية في ظل الاقتتال الداخلي أو يقدم التبرير المقنع والمقبول لعودة الاستعمار الغربي الى دنيا العرب (حيث غادر أو يكاد) بوصفه المنقذ من الطغيان الداخلي أو من دمار الحرب الأهلية.
ذلك أن هذه «المدرسة» التي تبرر نفسها بادعاءات فكرية تنسب الى غلاة المتطرفين في شرح الفقه الإسلامي، والذين أغلقوا الابواب على التفكير والاجتهاد منذ قرون وقدسوا تفسيراتهم للنص، وكفروا كل من لا يقول أو يعمل بتعاليم هؤلاء المتشددين، الذين يرون الإسلام فيهم، أما الآخرون ففي دار الكفر التي يقاتلون «لهدايتها» من أدنى الأرض الى أقصاها.
وما إحراق الكنائس ودور العبادة والقتل على الهوية الطائفية في مصر والاشتباكات الطائفية التي تكاد تذهب بحلم الثورة عشية انتصارها في كل من تونس، أو تكاد تدمر الدولة في البحرين، أو تكاد تهدد العمران والوحدة الوطنية في سوريا، فضلاً عن مخاطر تفجر الفتنة في لبنان، إلا شواهد على النتائج بعيدة المدى «لإنجازات» هذه المدرسة التكفيرية التي تكاد تخرج العرب والمسلمين من التاريخ.. والجغرافيا.
ولسوف تمر سنوات طويلة قبل أن تكتب القصة الحقيقية الكاملة لظاهرة أسامة بن لادن، حياته المغلقة على أسرارها، وتحولاته التي نقلته من «فسطاط» الى آخر، ومن «الجهاد» ضد الشيوعية والإلحاد وقوات الاحتلال السوفياتي في أفغانستان الى «الجهاد» ضد «الكفار» في الولايات المتحدة والغرب عموماً وبعض ديار العرب… مع استثناء إسرائيل دائماً.
يصعب، بطبيعة الحال، أن نصدق أن أسامة بن لادن قد ترك السعودية ليذهب الى «الجهاد» في أفغانستان بغير إذن أو علم النظام الذي نشأ في ظلاله، أو من خلف ظهر الحليف الأكبر لهذا النظام: الإدارة الاميركية.
بعيداً عن الحبكة البوليسية في حكاية بن لادن، والتي أضافت إليها واشنطن، مع الخاتمة، تشويقاً استثنائياً عبر براعة الإخراج الهوليودي، فإن القراءة المتأنية لمرحلة بن لادن تكشف كم دفع العرب من عدالة قضاياهم ومن سمعتهم الدولية، ومن أرصدتهم المالية، ومن حقوقهم في أوطانهم وفي أنظمة تليق بكرامتهم وثقافتهم وكفاءاتهم، كضرائب باهظة تعويضاً عما ألحقه بن لادن من خسائر بدول كثيرة ، مع أن خسائرهم هي الأفدح.
أصاب الضرر، بداية، فلسطين: قضية مقدسة وشعارات المقاومة والتحرير، برغم أن ظهور بن لادن قد تزامن مع تفاقم الخطر الإسرائيلي على القضية، نتيجة خروج النظام العربي من ميدانها، بالصلح المنفرد، أو بالخوف من التفرد في مواجهة قد تذهب بمن يجرؤ على المغامرة بتهور الجاهل بأسباب قوة العدو الإسرائيلي، الدولية منها والذاتية.
ومع مبادرة أهل النظام العربي الى استجداء «العفو» الاميركي عن صلتهم ببن لادن، ولو بحكم الولادة والجنسية، فقد تم اغتيال التفكير بالثورة، بعدما تم توسيع تعريف «الإرهاب» ليشمل شعارات التحرير وكل من فكر بالاعتراض فضلاً عن الكفاح المسلح أو مقاتلة جيوش الاحتلال.
وهكذا أمكن لأهل النظام العربي ان يشتروا لأنفسهم أعمارا جديدة عن طريق تكليف أنفسهم بقتال «الإرهاب» نيابة عن الإدارة الاميركية ولحسابها.
ولقد تيسر لي في الأيام الأخيرة من العام 1979 أن أزور المملكة العربية السعودية التي كان نظامها يعاني من ارتجاج عنيف نتيجة اقتحام مجموعة أصولية متطرفة بقيادة فتى ينتسب الى إحدى اكبر القبائل النجدية وأقواها، اسمه جهيمان العتيبي، الكعبة المشرفة، والتحصن بالسلاح فيها، متهمين النظام الوهابي الذي ولدهم وأنشأهم على مبادئه بالكفر والمناداة بإسقاطه.
كانت العملية من الإحكام والدقة في اختيار الهدف الأعظم قداسة لدى المسلمين، وفي مكة المكرمة، بحيث إن النظام قد ارتبك واهتز اهتزازاً عظيماً، وأسقط في يده: كيف يهاجم هؤلاء المتحصنين في كعبة الإيمان؟ وكيف يخرجهم منها وإخراجهم بالقوة سيضر بها إضرارا عظيماً ؟
وجاء من يقترح الاستعانة بقوات خاصة ومظليين فرنسيين إضافة الى القوات الخاصة الأردنية. وتم ذلك بالفعل، واستخدم المهاجمون كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك إحراق عشرات المقاتلين الذين كانوا يقبعون في الأقبية والسراديب، تحت الكعبة، أما من نجا من القتل فقد اقتيد الى ميادين الإعدام ليقطع رأسه بالسيف… في حين اعتقل المئات من أقارب جهيمان ورفاقه ليمثلوا أمام المحاكم الشرعية التي لا ترحم.
وحين دخلنا الكعبة المشرفة كانت بعض المآذن مقطوعة الرأس بالقصف وكانت آثار القذائف «المؤمنة» كندوب ما بعد الحرائق تستصرخ أهل الايمان إنقاذ الدين!
[[[[[
لقد نجح أسامة بن لادن في إشاعة الرعب في العالم جميعاً بعد «غزوة نيويورك» التي دمرت البرجين وتسببت في مقتل أكثر من ثلاثة آلاف إنسان، لا ذنب لهم إلا انهم كانوا تلك اللحظة في ذلك المكان.
لكن النجاح الأعظم يتمثل في أن بن لادن قد حول كل عربي، خاصة، وكل مسلم عموماً، الى إرهابي، قاتل أطفال ونساء، مدمر للحضارة …
بعد الحرب التدميرية على أفغانستان، ومن ثم احتلالها، ستشن الإدارة الاميركية على العراق بحجة ان نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شاملة، وستعيد نشر أساطيلها في الخليج العربي وبحر العرب، إضافة الى تعزيز قواعدها العسكرية في مختلف أنحاء الجزيرة العربية والخليج… وسوف تحاصر إيران، وتهدد سوريا، وتتحكم بمصير لبنان.
وبعد قوات الاحتلال ومعها سيطارد منتسبون الى القاعدة من صنفوهم خصوماً وعملاء من أبناء الأديان والطوائف الإسلامية الأخرى فكادوا يغرقون العراقيين بدمائهم.
إجمالا: سيكون على كل نظام عربي أن يثبت براءته من تهمة الإرهاب عبر الخضوع المطلق للهيمنة الاميركية، واستطراداً عبر إسقاط فلسطين من الذاكرة والتسليم بوجود إسرائيل بديلاً منها.
وسيكون العرب والمسلمون عموماً محاصرين بين حدي الاحتلال والإرهاب، فمن لم يمت بالقذيفة الاميركية مات بسيف الشرع أو بعبواته الناسفة للمصلين في المساجد كما في الحسينيات او في الكنائس حيث يصلي من كانوا جذور أهل العراق جميعاً.
يمكن «التنزه» مع أسئلة مثيرة أخرى من نوع: هل كانت المبادرة العربية التي تقدمت بها المملكة السعودية (بتزكية أميركية) لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي الوجه الآخر لغزوة نيويورك، أي: محاولة للتكفير عن ذنوب الأصولية الإسلامية التي صدرتها بلاد إسلام الصمت الأبيض والذهب الأسود الى العالم فأرهبته مذابحها الجماعية، بإقطاع فلسطين للإسرائيليين، تحت الرعاية الاميركية؟! وهل استقبال القواعد، في البر والبحر، ضمانة إضافية لإخضاع الأصولية الإسلامية للهيمنة الاميركية وتوظيفها في خدمة أهدافها تحت شعارات الدين الحنيف؟!
على ان أسامة بن لادن الذي انتقل من الأقصى الى الاقصى، من الجهاد ضد الشيوعيين الكفار الى الجهاد ضد الصليبيين الغربيين، لم ينتبه مرة الى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والى حروبها ضد العرب جميعاً، مصر وسوريا، والعراق، ولبنان الذي كانت اسرائيل – يوم باشر جهاده – تحتل أجزاء أساسية من أرضه وتسترهن بعض شعبه ودولته.
لقد ذهب بعض المستقبل العربي ضحية الإرهاب المزدوج: إرهاب الأصوليين الذين يرون غيرهم كفاراً الى أن يثبت العكس (ونادراً ما يثبت) وإرهاب الهيمنة الاميركية التي صادرت الغد العربي بذريعة مكافحة الإرهاب، وسجنت أجيالاً من العرب في زنزانة المتهمين بمعاداة الإنسانية وقتلة الأطفال والنساء، في حين أنهم – بحاضرهم ومستقبلهم – ضحايا مرتين: لبن لادن ولمن قاتل لحسابهم ثم قاتلهم فأخطأ في الحالين، وها هم العرب يدفعون الحساب مضاعفاً من حاضرهم ومن مستقبلهم.

[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version