طلال سلمان

مع الشروق سقطت فلسطين من الذاكرة الأميركية ..واستقرت الأسرار الكونية في عيادة طبيبة نسائية!

فجأة، ومن دون سابق إنذار تخلت الإدارة الاميركية عن اهتماماتها الفلسطينية التي أوحت أنها انشغلت بها عن الكثير من «مسؤولياتها الكونية»، وعادت الى منطقتنا بثياب القتال وهي تطلق صيحات الحرب ضد ثالوث «حزب الله» ـ سوريا ـ إيران، من دون تبرير واضح يفرض حالة الطوارئ هذه.
بل إن هذه الإدارة المهددة الآن بأن تخسر أكثريتها في الكونغرس، والتي تتعثر خططها الاستعمارية ـ ميدانياً وسياسياً ـ في أفغانستان، والتي انفتحت أمامها هوة أزمة اقتصادية غير مسبوقة، قد تركت قضية فلسطين لمصيرها الإسرائيلي مع «الدولة اليهودية الديموقراطية» وليتدبر أهلها في «الداخل» أساسا، ومن ثم في «الضفة» و«غزة» أمورهم مع قسم الولاء «للدولة» التي تلغيهم تماماً.
الجديد في الأمر أن الإدارة الاميركية لا تخفي عتباً قابلاً للتحول الى غضب على المملكة العربية السعودية وعلى ملكها عبد الله بن عبد العزيز، حتى ان مسؤولين كباراً لم يتورعوا عن نعته بأوصاف غير لائقة.
فأما في الشأن الفلسطيني فقد طوت الحكومة الإسرائيلية أمر التفاوض بذريعة الحرص على «وحدتها» وتجنب الصدام مع وحوش المستوطنين الذين باتوا يشكلون قوة الترجيح داخلها، والذين يراهنون على كسب الانتخابات المقبلة للقفز الى رئاسة الحكومة بمشروعهم العنصري الذي يجاهر بالدعوة الى طرد الفلسطينيين، لكي تتسع «ارض إسرائيل» لمزيد من اليهود… برغم أن أكثرية الذين ما زالوا يغامرون في القدوم الى الجنة الموعودة هم من «رعايا الاتحاد السوفياتي» السابق، او من بعض الأقطار الفقيرة في أفريقيا، وليس بينهم الا قلة من اليهود وسط أكثرية أرثوذكسية او وثنية…
لقد سحب الوسيط الاميركي ذو الابتسامة البلاستيكية من التداول، جورج ميتشيل. واختفى عن الشاشة، وتعددت العروض بالتعديلات الإسرائيلية غير المحدودة لاستئناف المفاوضات وكل منها يضيف مزيداً من المستوطنين ويقتطع المزيد من الأرض التي كانت مخصصة – نظرياً – لمشروع (او حلم) الدولة الفلسطينية، بحيث ان المتبقي منها – بعد الاقتطاعات المتوالية – لا يكفي لإقامة مدينة عزلاء يحاصرها سور حديدي من المستقدمين ليكونوا بدلاء أصحاب الأرض.
[ [ [ [ [
ما السبب في الحملة الاميركية الجديدة او المجددة على ثالوث إيران ـ سوريا «حزب الله»؟
في الظاهر من حركة الأحداث لم يطرأ ما يستوجب العودة الى الحرب، خصوصاً أن العقوبات على إيران قد بلغت حدها الأقصى فكادت تشمل الهواء ونور الشمس، في حين ان العالم كله يعرف ان ثمة صفقة اميركية ـ إيرانية تتكامل الآن حول الحكومة الجديدة في العراق، وأن الطرفين قد تفاهما على صيغة يكون فيها نوري المالكي الرئيس، وقد تولت واشنطن تسويقه ورتبت زيارته الى كل من القاهرة والأردن (وربما تركيا)، في حين تولت طهران تقديم الضمانات التي طلبها وأصر عليها الرئيس السوري بشار الأسد حول «التوازن القومي» وحماية حقوق «المكونات» جميعاً، وبالتحديد «حقوق السُنة» في صيغة الحكم في عراق المستقبل.
وتفيد معلومات متقاطعة ان الرئيس السوري قد ذهب للقاء الملك عبد الله بن عبد العزيز، بعد نجاحه في انتزاع الموافقة الإيرانية على الحكومة المتوازنة، بما يرفع الفيتو السعودي، ويفتح الباب أمام موافقة مصر أساساً ومعها الأردن، على التشكيلة المقترحة.
وتفيد هذه المعلومات ان إرادة اميركية هي التي فتحت باب القاهرة أمام نوري المالكي وللغاية ذاتها.
وواضح ان الكرد قد اجتهدوا لان يظهروا بمظهر «الوسيط النزيه» مقابل ان يحظوا في الحكم الجديد بنصيب الأسد، وأن يحتفظوا بمواقعهم الحاكمة في السلطة وهي كثيرة جداً بينها رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية ورئاسة أركان الجيش، فضلاً عن حصتهم في الوزارات والإدارات الحيوية، ومع الإصرار على ان تكون لهم كركوك ـ بأرضها ونفطها ـ خالصة ومن دون التنازل القطعي عن الموصل.
أين وقع الخلل، إذاً، فتهدد هذا التوافق الذي بات علنياً، حتى ان المالكي أعلن بالفم الملآن انه رئيس الحكومة الجديدة، وأنه يتفاهم مع الكرد، في حين لم يتعب منافسه اياد علاوي من الإعلان ان الكرد الى جانبه..
هل بدلت الإدارة الاميركية موقفها فجأة ومن دون سابق إنذار؟
هل انتبهت ـ متأخرة ـ الى ان الصفقة الجديدة تعطي سوريا مساحة من النفوذ ـ إقليميا ـ أوسع مما يجب ان يكون لها، حتى لا تغدو شريكاً لا يمكن شطبه في شؤون «الإقليم»؟
ام تراها تندفع الى مناورة حربية في المنطقة بأهداف انتخابية في الداخل الاميركي، تحاول بها استنقاذ موقفها الحرج، خصوصاً أن المؤشرات جميعا تدل ان إدارة اوباما ستمنى بخسارة فادحة في المجلسين، وأنها ستمضي السنتين التاليتين كالبطة العرجاء، لا هي تملك قرار الهجوم ولا هي تستطيع الانسحاب.
ام إنَّ هذا الهجوم الذي تركز على «حزب الله» في لبنان يجيء كدعم بنبرة حربية للقرار الاتهامي المتوقع صدوره عن المدعي العام في المحكمة الدولية حول جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري… وكان ضروريا ان يشمل سوريا وإيران لتكون «الحرب» شاملة على قوى الدعم والإمداد ، بالمال والسلاح والتدريب والتخزين الخ؟
…خصوصاً ان الهجوم قد تزامن مع غارة سياسية قامت بها بعض لجان التحقيق الدولي على عيادة لطبيبة نسائية في البيئة الحاضنة لقيادات «حزب الله» في الضاحية الجنوبية من بيروت، وكان مطلبها الحصول على الكشوف الطبية لعدد من زوجات كبار المسؤولين وقيادات المقاومة.
وكان الرد «طرد» لجنة التحقيق عبر تظاهرة نسائية وإعلان الحزب وقف التعاون ـ نهائياً ـ مع المدعي العام الدولي ولجانه، بسبب هذا الانتهاك الفاحش لخصوصيات الناس وأعراضهم، وبعد 56 شهراً من جريمة اغتيال الحريري… لا سيما أن أجهزة السلطة في لبنان قد لبت كل طلبات المدعي العام، فزودته بكل البيانات المتضمنة أسرار اللبنانيين وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والشخصية ومنذ العام 2003 وقبل جريمة الاغتيال بسنتين!
وبين ما طلبته لجان التحقيق فحصلت عليه، داتا الاتصالات والحسابات المصرفية وأسماء المنتسبين الى الجامعات الرسمية والخاصة وأرشيف المحاكم والمخابرات والشرطة… وليس ضرورياً القول ان هذه المعلومات ستصل جميعاً الى إسرائيل، التي ـ للمناسبة ـ قد اعترفت رسمياً وبلسان رئيس أركان جيوشها ان رجال المقاومة قد تمكنوا من رصد احدى غارات الكوماندوس البحري فيها، قبل ثماني سنوات، فأوقعوا بين المغيرين 12 قتيلاً وعدداً من الجرحى، وانتهت الغارة بكارثة للإسرائيليين. كذلك ليست ضرورية الإشارة الى ان إسرائيل قد اعترفت بأنها قد اقتحمت داتا الاتصالات في لبنان منذ اليوم الثاني لحربها ضد شعبه في تموزـ يوليوـ 2006، وهي بالتأكيد ما تزال تقتحمها وتطلع على تفاصيلها حتى اليوم، يعزز ذلك اعترافات العديد من العملاء اللبنانيين الذين افتضح أمرهم فأوقفوا واعترفوا وهم قيد المحاكمة الآن.
البعض يرى ان تجديد الحملة على سوريا تحديداً، ومعها «حزب الله» إضافة الى إيران يهدف الى التغطية على الفضائح الخطيرة التي كشفها موقع ويكيليكس حول الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الاميركية وأعوانها ضد الشعب العراقي عموماً والتي أودت بأعداد مرعبة من القتلى، قد تصل الى ما يقارب مليون ضحية (الموقع تحدث عن أكثر من120 الف ضحية) في حين تؤكد مصادر اميركية ان الضحايا يصلون الى 250 الف ضحية، اما المراجع البريطانية فتشير الى حوالى سبعمئة الف ضحية… والحقيقة أفظع من ذلك بكثير)..
وبعض آخر يرى ان الحملة تستهدف إعادة صياغة التشكيلة المحتملة للحكومة العراقية الجديدة وذلك عبر الضغط على سوريا في لبنان (ومعها «حزب الله»)…
وكان لافتاً ان تتفجر هذه الحملة عبر ألسنة كثيرة أولها معاون وزيرة الخارجية الاميركية جيفري فيلتمان، بعد زيارة قصيرة للسعودية أعقبتها زيارة اقصر للبنان، ثم السفيرة الاميركية المعتمدة في مجلس الأمن سوزان رايس، تمهيداً لان يدخل على الخط تيري رود لارسن، الذي يسميه اللبنانيون «الناظر الخصوصي» للقرار الدولي 1559 الذي يرى فيه الكثيرون إعلان الوصاية الاميركية على لبنان في بداية ايلول (سبتمبر 2004)، خصوصاً أنه كان في حينه إنذارا بمباشرة الحرب على الوجود السوري في لبنان الذي انتهى بطريقة درامية بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري.
هل اختير لبنان، عبر مقاومته، باعتباره الخاصرة الرخوة لسوريا، والتي طالما توقع مسؤولوها ان يأتيهم الهجوم الإسرائيلي عبرها؟
أم اختير لبنان كجبهة موازية للعراق، وعلى قاعدة «تعطيني هنا فأعطيك هناك»؟
المهم ان هذه العاصفة الاميركية الجديدة قد طمست أكثر فأكثر مقومات القضية الفلسطينية، وأسقطت المسلسل الرديء حول المفاوضات بين سلطة لا تملك من أمرها شيئاً وبين دولة يهود العالم المعززة بتأييد دولي بعنوان اميركي يتزايد نفوذاً وقوة يوماً بعد يوم، ويكاد يشطب من التاريخ كل الوعود التي أطلقها الرئيس الاميركي الأسمر ذو الجذور الإسلامية من جامعة القاهرة، ثم أعاد تأكيدها في واشنطن قبل ان يبتلعها مع وصول نتنياهو الى البيت الأبيض؟
وها نحن أمام حروب اميركية جديدة لمصلحة إسرائيل أولا وآخراً، وعلى حساب العرب جميعاً، أصدقاء الإدارة الاميركية وخصومها على حد سواء.

ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

Exit mobile version