يتابع المواطنون العرب خارج مصر وبقلق بالغ التطورات الخطيرة والمتسارعة التي شهدتها القاهرة في الأيام القليلة الماضية، والتي شقت «الميدان» إلى معسكرين متواجهين مما يهدد الإنجاز الثوري العظيم بإسقاط الطغيان بمخاطر التعثر والضياع.
ذلك أن الآمال المعقودة على ثورة مصر جعلت العرب جميعاً يستعيدون الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على بناء غدهم الأفضل عبر الثورة التي اجتمع في ميدانها كل القوى السياسية، متجاوزين خلافاتهم العقائدية وانتماءاتهم الحزبية، مقدمين صورة بهية لقدرة الشعب على اختراق ما كان يبدو مستحيلاً.
ثم أن سلمية الثورة ونصاعة أهدافها وتكاتف القوى السياسية لإنجازها، كل ذلك قد أكد أهلية الشعب في مصر لقيادة الأمة جميعاً نحو غدها الأفضل.
لكن التطورات التي توالت مؤخراً قد أكدت ما لا يحتاج إلى تأكيد من أن السلطة مفسدة، وأنها قد تتحول إلى مصدر للخطر الفعلي على وحدة الشعب وعلى ثورته البهية..
وكان المواطنون العرب يفترضون أن المآسي بل الكوارث القومية التي ضربت أقطاراً عربية أخرى، أبرزها سوريا، والتي تتهدد العراق ولبنان واليمن وليبيا وحتى تونس، ستنبه القوى السياسية في مصر، وبالتحديد تلك التي ترفع الشعار الإسلامي، إلى مخاطر التفرد والانشقاق والتسبب في تصدع الوحدة الوطنية التي تأكدت في لحظة تاريخية مجيدة فحققت الإنجاز العظيم.
فهذه سوريا تكاد تغرق في دماء شعبها، ويتهددها خطر تصدع الكيان «دولة فاشلة»، لان نظامها القائم – نظريا – على الحزب الواحد (وهذا اقصر طريق لحكم الرجل الواحد) قد انتهى إلى الافتراق عن مطامح الشعب وتحول إلى عقبة في طريق تمكينه من حقوقه في وطنه، وأولها حقه في الحرية وفي ممارسة الديمقراطية وفي ان يكون مرجع القرار، بدل أن يظل هذا القرار حكراً على فئة أو جماعة أو حتى «الحزب القائد» في عصر تهاوي الأحزاب العقائدية وافتضاح عجزها عن صياغة الغد الأفضل في البلاد التي حكمتها أطول مما يجوز.
ومن قبل سوريا تجربة العراق في ظل حكم صدام حسين الذي حول الحزب إلى «جهاز» من أجهزة مخابراته، وان ظل يرفع شعاراته الجذابة في الوحدة والحرية والاشتراكية خداعاً للشعب وتمويهاً لجماهيره المتطلعة إلى غد أفضل في ذلك البلد العربي الغني بموارده الطبيعية وأهمها النفط فضلاً عن «سواد العراق» الذي كان ذات يوم بين أخضب أراضي الدنيا وأسخاها عطاء لأهله..
ثم هناك اليمن، جنوباً وشمالاً… فقد أدت هيمنة الحزب الواحد، بالانقلاب، على السلطة في تلك «الدولة» التي استولدتها الصراعات الدولية في جنوب اليـمن تحت لافتـة فخمة «جمهـورية اليمن الديمقراطي» الى حرب أهلية فعلاً، بعد مسلسل من الحروب مع الشمال، وانتهى الأمر بمذبحة في قصر الرئاسة ذهب ضحيتها أكثر من عشرة آلاف قتيل.
إن هذه الأقطار العربية الثلاثة قد خسرت «الدولة» فيها، ومن الصعب أن تستعيدها معافاة وقابلة للحياة، إلا بعد دهر من الشقاء والصراعات التي لا بد ستدخلها – فضلاً عن أحزاب الماضي – القوى الإسلامية التي تعتبر نفسها صاحبة حق شرعي في التصدي لمهمة بناء المستقبل، على قاعدة الدين الحنيف.
لقد كانت الثمار المرة لتفرد حزب بالحكم أقسى من أن يتحملها الشعب،
ومع التقـدير لدور القادة التاريخيين، في حقب معينة، وفي بلاد بالذات،
ومع التقدير أيضا لتجارب أحزاب سياسية رأت في نفسها القدرة على بناء الدول في أقطار عديدة، عبر الانفراد بالسلطة.
ان تجـربة تفـرد حـزب او قائـد فرد بالحـكم تنتـمي إلى عصـر مـضى، مـع الأخـذ بالاعـتبار أن تلـك الأحـزاب لم تـكن تـرفع الشـعار الديني، بل تزعم أنها تبـني مجتمعـات الكفـاية والـعدل والمـساواة بين مواطنـيها واقتـحام العـصر بقدرات شعـبها وقد تحـرر من إسار طغـيان مـن الإقطاع – دينيا أو سياسياً – أو الطـبقة السـياسية الفاسدة والمفسدة.
ولقد كانت تجربة «الميدان» في مصر فريدة في بابها، اذ انخـرطت الملايين في الثورة على الطغيان، وتكاتفت الجماهير متعددة الانتـماء فـكرياً وسياسياً في مواجهة سلطة الفساد والانحراف السياسي ومصالحة العدو الإسرائيلي على حساب المصالح الوطنية لمصر… ثم أنها واصلت نضالها بعد إسقاط الطاغية، فازدهرت آمال الناس بالتغيير لا سيما وان القوى السياسية، سواء العريقة أو الجديدة، والمنظمات الشبابية التي بثت في «الميدان» روحها المتطلعة إلى غد أفضل ترى في ذاتها الأهلية لان تسهم في بنائه.
وهكذا قدم «الميدان» تجربة فريدة في بابها، كان «الشارع» فيها هو القاعدة وهو ارض التلاقي مع القادمين بأحلامهم، وهو منتدى الحوار حول الدستور، وحول صيغة الحكم المنشود بديلاً من الطغيان.
كانت شعارات «الميدان» تختصر صورة الغد المنشود. وكانت جماهير «الميدان» مجتمعة هي القوة الحاسمة في إسقاط الطغيان. لم تفرقها الشعارات المتباينة والهتافات التمايزة، لان الهدف كان يوحدها، والطموح إلى حكم وطني جامع يوحد بين فرقها ومجموعاتها المتمايزة.
هل من الضروري التنبيه إلى أن الشعار الديني ليس هو الإطار الجامع لمختلف قوى «الميدان»، والعديد منها لا يرى فيه الصياغة السياسية الامثل للعهد الجديد؟
إن لكل تنظيم سياسي تاريخه. ولم تكـن تنظـيمات الإخـوان المسـلمين في مختـلف الدول العربيـة تمـثل الأكثرية الشعـبية المطـلقة، بمـا في ذلك مصر التي ولد فيها هذا التنظيم وتكامل بناؤه الفكري والسياسي.
كذلك فلم يقدم هذا التنظيم تصوراً متكاملاً لبناء الدولة، بمعزل عن الشعارات التي لمعظمها طابع أخلاقي يغلب على الصياغة السياسية لبرنامج حكم.
وما من شك في أن التصرفات «العصبية» التي صدرت عن قيادة هذا التنظيم قد صدمت جماهير «الميدان»، وكشفت نزعة كامنة إلى احتكار السلطة مستبعدة شركاء النضال ضد الطغيان الذين حصدوا، في انتخابات الرئاسة، أضعاف ما جمعه مرشح «الإخوان» الذي غدا رئيسا لمصر وبالتالي لكل المصريين.
ولقد كان مأمولاً أن يكون «الإخوان» أكثر التنظيمات السياسية حرصاً على الوحدة الوطنية التي تجلت في أروع صورها في «الميدان»، خصوصاً وقد وصلوا إلى سدة السلطة وموقع القرار.
كذلك كان مأمولاً منهم، وهم التنـظيم العريق، أن يكونوا أكثر انفتاحاً على مفاهيم العصر، وأكثر رحابة من أيام عملهـم السـري، وأكثر استـعداداً للشـراكة مع رفاقهم في «الميـدان» في مرحلة بناء العهد الجديد الذي لا يجوز لهم، حتى لو كانوا قادرين، على التفرد ببنائه… فمـصر أوسـع من أن يستـطيع استيـعابها أي تنظـيم مهـما بلـغ حـجمه ومساحة تأييده الشعبي في بلد يقترب عدد سكانه من التسعين مليوناً.
أمـا أخطـر ما وقـع فـيه حكـم «الإخـوان» فهو هذا التـصادم مـع رفاقهم فـي «المـيدان»، مـع المختـلفين عنـهم فكـرياً وسياسـياً وان كانـوا لا يقلـون عنهم وطنية والتزاماً بمصالح مصر وشروط سيادتها واستقلال قرارها.
وما زال العرب خارج مصر يأملـون في أن يعـيد «الإخوان» النظر في سياسة التفـرد هذه التـي من شأنهـا أن تغري به النفـوذ الأجـنبي، فتتقـدم بذريعة أنها تريد نجـدته في حين أن هدفهـا الحقـيقي استرهانه… وها حكاية قروض صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي وتحويلها إلى شروط سياسية تدق جرس الإنذار للحكم الذي استولده «الميدان».
إن تجارب نظام الحزب الواحد في الوطن العربي مدمرة، وشواهدها حاضرة ممثلة في ضحاياها الذين يتجاوزون أي إحصاء، فضلاً عما أصاب وحدة الشعب من تصدع يدفع العراق وتدفع سوريا (واليمن) أكلافه الباهظة من حاضرها ومستقبلها.
أن التجارب قد علمت عرب المشرق، سوريا والعراق ، أن الحزب الواحد اضعف من أن يحكم شعباً فيلبي احتياجاته فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مهما كانت كفاءة «كادراته» القيادية… فكيف إذا كان قد استخصم سائر القوى التي كانت «حليفه» و«شريكه» في إنجاز النصر العظيم؟
ولقد تجلت في تصريحات العديد من القياديين الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، نوايا التفرد بالسلطة واستبعاد «الشركاء» بل والاندفاع إلى تخوينهم واتهامهم «بالتخابر مع جهات أجنبية»، وهذا ما يكشف أن الأسلوب ذاته هو المعتمد بين «المتفردين» سواء أكانوا بعثيين أم ماركسيين أم قوميين عرب أم إسلاميين.
وكما أن «انتـصار» أحـزاب الماضي، في المشـرق العـربي، على الشركاء في الثورة على أنظمة الطغـيان، قد تحول إلى طغـيان عنـدما تـفرد واحتكر السلطة لمحازبيه، كذلك فان مثل هذا الخطر يتهدد مصر في حاضرها ومستقبلها، إذا تحكمت نزعة الاستئثار بالسلطة بتنظيم الإخوان..
وفي أي حال فالإسلام أرحب من أن يستطيع احتكاره حزب،
ثم أن الدين لم يكن برنامجاً للحكم في أي بلد… وحيث يتحكم الملوك وأشباههم برعاياهم باسم الدين فان «المطاوعة»، وهم نسخة عصرية من جلاوزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم الذين يقررون مدى عمق الإيمان في صدر المسلم، ثم يحكمون عليه بالجلد أو بما هو اشق إن لم يعجبهم هندامه.
ان أمام تنظيم الإخوان، بعد، فرصة للتوكيد أنهم ليسوا راغبين في احتكار السلطة، وليسوا «إقصائيين» لغيرهم من الشركاء في الميدان، والذين كان بامكانهم الوصول الى سدة الرئاسة لو أنهم توحدوا… وبالتأكيد لو تحققت تلك الوحدة لكان مرشح تلك الجبهة قد صار رئيساً بأكثر من الأصوات التي نالها الرئيس محمد مرسي.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية