طلال سلمان

مع الشروق تزاوج الدكتاتورية والرعاية الأميركية: الربيع العربي ينجب الإسلام السياسي

بداية، وتأكيدا للإيمان بالديموقراطية، لا بد من الاعتراف بحق الإسلام السياسي – كتيار تاريخي، وبمعزل عن الصح والغلط في ممارساته السياسية وفي الرد عليها بالقمع -، في أن يتقدم الصفوف وان يتولى او يتمثل في السلطة الجديدة التي جاءت بها أصوات الناخبين في أنحاء عدة من الوطن العربي الكبير، بدءاً بمصر مروراً بتونس وانتهاء بالمغرب الأقصى.
وليس من حق المفجوعين بهذه النتيجة للعملية الديموقراطية ان يقابلوها بالرفض او بالاستنكاف عن العمل السياسي بذريعة اليأس من الجمهور الذي تحركه عواطفه او مشاعره الدينية، خصوصاً ان الدين كان ملاذه الأهم في دهور البؤس وفقدان الأمل في السلطة القائمة بالأمر.
لقد دمرت أنظمة ما قبل ميادين الانتفاضات أجيالا من المناضلين وسحقت حقوق الناس البديهية في حياة أفضل، لم يقصروا في منحها عرق الجباه وثمرة العقول من اجل زيادة الناتج القومي الذي كان يسرق او يبعثر على أهل السلطة وشركائهم في الداخل والخارج، فضلاً عن السماسرة الذين كثيرا ما صاروا اخطر من الوزراء وأركان الإدارات العامة.
ثم ان التجارب البائسة التي انتهت اليها الأحزاب العلمانية، لا سيما في المشرق، قد استولدت ردة فعل عنيفة ضد المبادئ التي كانت ترفعها بمعزل عما اذا كانت الأنظمة التي حكمت باسم تلك المبادئ قد التزمت بها حقاً وعملت بجد لمحاولة تنفيذها ام انها ـ كما دلت النتائج – قد استخدمتها لجذب الجماهير والتغرير بها، ثم مضى «القادة التاريخيون» في تدمير الأحزاب التي وصلوا بها الى السلطة، كمدخل الى تدمير الحياة السياسية جميعاً. وبديهي ان تسحق أحزاب المعارضة وتجفف ثم تستبقى لتكون بين أدوات الزينة التي يستخدمها الدكتاتور لنفي التفرد عن حكمه الفردي.
الدكتاتور هو الدكتاتور، لا يتبدل نهجه ولا تختلف نتائج تفرده بالقرار، في أي مكان او زمان..
وما أفرزته نتائج الانتخابات في تونس بداية، ثم في مصر بالتحديد، هو ـ بالدرجة الأولى – رد فعل أولي على القمع اتخذ شكل التعاطف مع القوى التي نالها قمع اشد، أكثر منه تعبيراً عن التسليم بشعار «الإسلام هو الحل» أو بامتلاك الأحزاب الإسلامية، اخوانية او سلفية، وصفة الإنقاذ السحري لواقع هذه الدول التي أذلها الطغيان وأفقرها، وضمنها الحركة الشعبية التي دمرها الطغيان بالاعتقال والسجن والإفقار والتشريد والقتل احياناً.
مع التنويه دائماً بان الحركات الإسلامية ظلت الأكثر تنظيماً، في حين ان «الميدان» امتلأ بملايين المتماثلين نهجاً والمتقاربين فكراً ولا تنظيم يجمعهم.
من هنا يطرح السؤال نفسه: هل النتائج التي أفرزتها الانتخابات النيابية في كل من تونس ثم مصر (ونستثني المغرب لاختلاف الظروف) تمثل ـ فعلاً- الرصيد الشعبي للمشروع السياسي للقوى الإسلامية، احزاباً ومجموعات، أم انها ـ في جوهرها – رد فعل أولي على الاضطهاد التاريخي الذي أصابها على أيدي أنظمة القمع، وتعويضاً لها عن دهور «نفيها» من الحياة السياسية، تمهيداً لامتحانها في صدق ولائها لأهداف الشعب في الحرية والعدالة والتقدم، ثم في قدرتها على انجاز ما وعدت بها إذا ما وصلت الى السلطة او شاركت فيها؟
بتعبير آخر: هل هذه النتائج تتصل بالماضي، وشيء من الرغبة بالتعويض عنه، ام هي تتصل بإيمان الجمهور بان هذه القوة الإسلامية تملك برنامجاً متقدماً لمستقبل مصر او تونس، ام هي اندفاع نحو «الإسلام هو الحل» لان الإسلام السياسي ـ كأحزاب وتنظيمات – لم يحكم يوماً، ولم يمنح فرصة لاكتشاف مدى صلاح برنامجه كمدخل الى الحل الذي بات الآن أكثر صعوبة منه في أي يوم سابق؟
ثم.. هل هذه النتائج مكافأة متأخرة للإسلاميين ام هي عقاب للقوى الأخرى التي كانت تسفه الإسلاميين وتتهمهم بالتخلف وبنقص في ايمانهم بالإرادة الشعبية وبالهرب من مشاكل الناس على الأرض الى حلول موعودة في السماء… قبل التدقيق في قدرة هؤلاء على إقامة حكم العدل والمساواة بين المواطنين وهل يملكون خططاً للتقدم والقفز بالبلاد من وهدة التخلف والقهر والعوز، الى ما يليق بكرامة شعبها وحقه بدولة عصرية، لم يقصر يوماً في منحها عرق الجباه بل الدماء كلما ناداه واجب التحرير او مواجهة محاولات الإذلال؟
وهل هذه النتائج حصيلة صراع في الداخل وعليه ام ان «الخارج» فيها، كعنصر فاعل ومؤثر، وبالتالي كمستفيد أول، حتى وان تبدى الصراع «محليا»ً في صورته الظاهرة؟
بتعبير آخر، هل كانت الإدارة الاميركية تحديداً، والغرب عموماً مجرد متفرج في الخارج، يتابع ويراقب كشاهد، ولا يتدخل مطلقاً، مع التذكير بأنه موجود في «الداخل» بأكثر مما نقدر، ومؤثر بأكثر مما نتصور؟ ألم يكن هذا «الخارج» هو المرجعية الفعلية للأنظمة التي تفجرت الانتفاضات في وجهها مطالبة بإسقاطها؟
ألم يكن الرئيس الاميركي باراك اوباما على اتصال هاتفي مع الرئيس المخلوع حسني مبارك منذ انفجار الثورة الشعبية في مصر وحتى اللحظة الأخيرة، يوجهه وينصحه بالصمود، والتنازل عن بعض صلاحياته لنائب رئيس يختاره من بين أركانه، حتى إذا جد الجد سحب يده منه وطالبه بالتنحي؟
لم تكن الإدارة الاميركية على اتصال مفتوح مع الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، تحرضه على الصمود ضامنة له عدم تحرك الجيش، فلما انهارت أعصابه واختار الهرب كانت مستعدة لترتيب أمر المرحلة الانتقالية مع الثقة بقدرتها على الوصول بها الى النتائج التي تعيشها تونس اليوم؟
ألم تكن الإدارة الاميركية على معرفة بخريطة القوى السياسية في مصر، وهي ولية أمر النظام المصري من لحظة رحيل جمال عبد الناصر، وقد تولت مع أنور السادات إعادة ترتيب «الداخل» فرعت «مصالحته» مع الإخوان المسلمين بما يضمن ـ لاحقا – تمرير معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي بأقل معارضة منظمة ممكنة، خصوصاً وقد تم تزيين ذلك الصلح بوعود مذهبة عن الرخاء المقبل مع «الانفتاح» على «الخارج» والعمل لاستعادة عرب النفط في فترة لاحقة لدعم النظام في مواجهة معارضيه الذين تمت الاستعانة بالأزهريين والإسلاميين عموماً لتكفيرهم نتيجة رفضهم سياسات «الرئيس المؤمن»… وهل كان اختيار هذا اللقب ذي الرنين الديني لأنور السادات مجرد مصادفة ام هي عملية مدروسة لإسباغ شيء من قدسية الدين على فعل الخروج على إرادة الأمة؟
ألم تكن الإدارة الاميركية تتابع وترعى التحولات السياسية التي كانت تشهدها صفوف الإسلاميين عموماً، والتي وفرت لها عمليات «القاعدة» وأخطرها ضرب البرجين في نيويورك، الفرصة للتبرؤ من «التطرف» وإعلان التوبة عن نهج «الإرهاب»، والعودة الى حظيرة النضال السلمي من اجل الديمقراطية، والتخلي عن المنهج الانقلابي والتسليم بالانتخابات كمعبر إجباري الى تداول السلطة… معززة بشهادة حسن سلوك اميركية؟
بالمقابل فإن «بيت الخبرة» البريطاني كان حاضراً بعلاقاته التاريخية مع القيادات الإسلامية في المشرق العربي خصوصاً، ومن ضمنه مصر، وقد أضاف اليها علاقة مستجدة مع إسلاميي المغرب عموماً، وتونس وليبيا على وجه الخصوص…
على ان ذلك كله ما كان ليكفي من دون توظيف التراكم التاريخي لفشل الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم أحزاب وتنظيمات شعبية سرعان ما دمرتها لينفرد «القائد التاريخي» و«الزعيم الملهم» و«الرئيس الى الأبد» بالسلطة… وذلك قد وفر مناخاً ملائماً لإدانة العمل الحزبي ذي الشعار التقدمي (حزب البعث في العراق، ثم في سوريا، ومن قبل الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي، فضلاً عن هرطقات القذافي حول الاشتراكية و«غربة» الأحزاب الشيوعية عموماً عن مجتمعاتها نتيجة التحاقها بالمركز في موسكو. و«المركز» لا ينظر الى تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي بوصفها «قضيته المركزية» وهو لا يقر بالكفاح المسلح وسيلة لتحريرها، كما انه لا يسلم بالعروبة كانتماء جمعي لهذه الشعوب المنتشرة بين بحر العرب والمحيط الأطلسي).
على هذا يمكن القول ان النجاحات التي تحققها الحركات الإسلامية في مصر وسائر الدول العربية في شمال أفريقيا هي ـ في بعض جوانبها – حصيلة فشل الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم العروبة والاشتراكية وشعار الوحدة…
ولقد تسببت تلك الأنظمة في إلحاق الأذى بقضية العروبة ذاتها وبفكرة الاشتراكية بل بالأحزاب العلمانية جميعاً… وصار يمكن تصوير إسقاطها على انه هزيمة للعروبة أولا، بدليل ان الشعار الذي رفع مباشرة في كل قطر عربي كان يركز على أمرين متكاملين: نفي صفة العروبة عن البلد المعني بالتركيز على هويته المحلية، ثم اللجوء الى «الإسلام» كهوية جامعة، علماً بأنه ندر ان اجتمع إسلاميان على مفهوم موحد للإسلام السياسي.
ان استثمار فشل أنظمة الطغيان التي تخصصت في تشويه العروبة وتدمير الحركة السياسية، بأحزابها المتعددة الراية والعقيدة، لا يكفي كي يعطي الحركات الإسلامية الشرعية والأهلية لصناعة الغد الأفضل.
ان هذه الحركات تأتي، بأغلبيتها، من الماضي. ولا يكفي الجهر بمعاداة العروبة والاعتصام بالكيانية، بينما العقيدة المعلنة «أممية» لتأكيد أهلية هذه الحركات لبناء أنظمة ديموقراطية تحفظ الهوية الأصلية لبلادها وتتقدم بها على طريق المستقبل الأفضل.
ومن باب الطرافة نشير الى المفارقة المتمثلة في واقع ان الإدارة الاميركية قد أطلقت تعبير «الربيع العربي» على حركة الانتفاضات الشعبية التي تزامن تفجرها في أقطار عدة، وان هذه الحركات تؤكد انتسابها – بشكل او بآخر – الى هذه الموجة، لكنها سرعان ما تبادر الى نفي هويتها العربية لتوكيد اسلاميتها.
ولا يتبقى غير ان نهنئ الإدارة الاميركية على عميق إيمانها بالدين الحنيف.

نشر في جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version