هل يحق لمواطن عربي، من خارج مصر، أن يبدي رأياً في شأن «داخلي» مصري… علماً بأن التطورات المذهلة التي أحدثتها ثورة الاتصالات قد أسقطت «الحدود» وألغت المسافات وجعلت العالم «قرية كبيرة» لا أسرار فيها ولا قدرة على حصر الأصداء والتداعيات بذريعة «السيادة» أو منع التدخل في «الشؤون الداخلية».
ثم إن أي مواطن عربي، في أي من أقطار هذا الوطن الكبير، يرى نفسه معنياً بالانتخابات الرئاسية، بل وبالتطورات التي شهدتها وتشهدها مصر منذ ثلاث سنوات أو يزيد، بقدر ما يفترض أنها ستؤثر على بلده، سواء في المشرق أو في المغرب، لأن مصر تحتل سواء وهي قوية كما يتمنى لها سائر العرب، أو حين تضعفها سياسة التخلي عن مسؤولياتها وتأخذها إلى العزلة، أو إلى التنصل من هويتها العربية، موقع القيادة أو المرجعية، وما تقرره أو يتقرر فيها يؤثر ـ بالسلب أو بالإيجاب ـ في سائر الدول العربية، بحاضرها ومستقبلها.
فأما «الرأي» فحول الانتخابات الرئاسية في مصر، لا سيما وقد حسم المشير عبد الفتاح السيسي موقفه فاستقال من موقعه العسكري الممتاز كقائد عام للقوات المسلحة وقرر التقدم إلى الانتخابات الرئاسية.
أول الملاحظات: إن المسافة شاسعة بين «الميدان» بانتفاضاته المجيدة وغير المسبوقة في جذرية أهدافها وصراحة شعاراتها وبين النتائج السياسية بعنوانها الأبرز: وصول عسكري، مرة أخرى، إلى رئاسة الدولة التي تفجر الطموح إلى إعادة بنائها بقدرات شعبها الذي أكد حضوره الباهر، بعد تغييب قسري استطال دهوراً.
ولا يتصل الأمر بشخص هذا «العسكري» الذي استطاع بقرار شجاع، وفي لحظة فارقة في التاريخ المصري الحديث، أن يوفر لحركة الاعتراض الشعبي الجارف لحكم «الإخوان» فرصة إسقاط «النظام» الذي حاولوا إقامته بالتسلل والتحايل على انتفاضة «الميدان»، التي كان الأبرز في شعار جموعها «يسقط، يسقط، حكم العسكر».
.. بل إن الأمر يتصل بالمفارقة المتمثلة في أن «الميدان» الذي كان يهتف بسقوط حكم العسكر يجد نفسه الآن في مواجهة خيار محدد يتقدم فيه «مرشح» كان على رأس المؤسسة العسكرية إلى الانتخابات الرئاسية التي سوف تجري بعد أسابيع قليلة، في صورة «المنقذ» من حكم الإخوان.
هل ينجح «العسكري» الذي اتخذ القرار الشجاع بقيادة التحرك الشعبي لإسقاط حكم «الإخوان»، الذين كانوا يراهنون على البقاء في سدة الحكم في مصر إلى ما شاء الله، في تقديم نفسه إلى المصريين (ومن بعدهم إلى العرب والعالم) في صورة «الرئيس المدني» المؤهل والقادر على تجديد الحياة السياسية في مصر، بالقوى الحية التي فجرت ثورتين هائلتي التأثير خلال ثلاث سنوات أو اقل؟
…أم تراها تكون عودة إلى «حكم العسكر» الذي امتد لستين عاماً، أي منذ ثورة «23 يوليو» 1952 وحتى أول تموز 2013، مع فاصل لم يتجاوز السنة تحت حكم «الإخوان» الذي نجح في استفزاز المصريين ونزولهم، مرة أخرى، إلى الميدان، لإسقاطه متجاوزين شعارهم الأثير الذي اتخذوه راية وعنواناً لنضالهم المتجدد «يسقط، يسقط، حكم العسكر»، عبر الاستجابة المليونية لنداء القائد العام للقوات المسلحة، يومها، الفريق أول عبد الفتاح السيسي؟
المسألة، إذن، هي ببساطة: تولي عسكري، مرة أخرى، الرئاسة والقيادة العامة لشؤون الدولة، في اكبر دولة عربية، وبعد تجارب مريرة لحكم العسكر في العديد من الأقطار العربية، كان يؤمل أن تدخل التاريخ.
فإذا ما تجاوزنا أول محاولة انقلابية، وهي تلك التي وقعت في العراق الملكي تحت الانتداب البريطاني في أربعينيات القرن الماضي، فإن الحكم في سوريا ـ الجمهورية ـ قد بات تحت مظلة العسكر ابتداءً من ربيع 1949 (بعد الهزيمة في فلسطين مباشرة) وهو قد تواصل، بصيغة أو بأخرى وما زال مستمراً حتى اليوم… وفي مصر ابتداءً من «ثورة يوليو» 1952 وحتى انتفاضة «الميدان» في بدايات 2012، وفي العراق منذ ثورة «14 تموز» 1958، وفي الجزائر التي تفجرت ثورتها الشعبية العظيمة وأجلت الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في سنة 1965، لم يدم الحكم المدني لقادة الثورة إلا ثلاث سنوات ثم تولاه العسكر حتى اليوم. وفي ليبيا ابتداء من أول أيلول 1969، وفي السودان تناوب العسكر على الحكم، مع فترات فاصلة محدودة من الحكم المدني، طوال الأربعين سنة الماضية، أما في تونس فقد خلع العسكر الحبيب بورقيبة واستولى زين العابدين على السلطة طوال ثلاثة عقود. أما في اليمن فقد تواصل الحكم العسكري على امتداد أربعين عاماً أو يزيد.
هذا يعني أن العسكر قد هيمنوا على السلطة في أكبر وأهم الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، على امتداد الستين سنة الأخيرة، وبالتالي يمكن اعتبار النظام العسكري مسؤولاً عما شهدته هذه الدول من تحولات واضطرابات ومن تقدم وانتكاسات، وإن كانت الحصيلة النهائية كارثية، كما تشهد أحوال هذه البلاد بعد ستين سنة أو يزيد من «إنجازات» الأنظمة العسكرية.
ولعل اخطر هذه «الإنجازات» أن الحركة الشعبية، بأحزابها وتنظيماتها السياسية والنقابية والمهنية ونخبها الثقافية، قد اندثرت، أو تكاد، بعد مسلسل القمع وشراء الموالاة بالمناصب والامتيازات، فتبدت البلاد وكأنها صحراء قاحلة، لا مواهب فيها ولا كفاءات.. إذ كان الخيار أمام هؤلاء محدداً: توالون فتقبلون في خدمة السلطان، وتعترضون فتهمشون وتدفعون دفعاً إلى مغادرة البلاد وبيع كفاءاتكم للخارج.. أما إذا قررتم المجابهة والتحدي فالمعتقلات تتسع لكم جميعاً.
وليست مصادفة أن تتهاوى دول عريقة مثل مصر والعراق وسوريا وتغترب عن العصر، وأن تتخلف في مجالات الإنتاج جميعاً، وأن تغادرها كفاءاتها الممتازة، وأن يسود الفساد في إداراتها وأجهزتها جميعاً، نتيجة فساد الحكم واستبداده وسيادة المنطق العسكري «نفذ ثم اعترض».. ويمكن إضافة الجزائر وليبيا واليمن إلى هذه القائمة.
لقد هاجرت النخب إلى حيث يمكنها أن تبيع كفاءتها فتعيش حياة بلا قمع، بل لقد ارتضى كثيرون أن يعيشوا ظروفاً قاسية في «المنافي المريحة».. فخسرت بلادهم أبناءها الأقدر على بنائها، بينما استولت طغمة الحكم العسكري على المناصب القيادية وفتحت الباب للانتهازيين والمنافقين وناقصي الكفاءة، فإذا الفساد يضرب الإدارة، وإذا الرشوة تسود، وإذا الحاكم محاط بأهل السوء بعيد عن هموم شعبه وعن حقه المشروع في التقدم.
وبالتأكيد فإن بلاداً مثل مصر، بدولتها العريقة، هي اليوم أعظم تخلفاً مما كانت عليه في الستينيات، بغض النظر عن الادّعاءات… فالتعليم أسوأ، بما لا يقاس، والإدارة أعظم فساداً، والمدن قد تريفت، وخدمات الدولة بالرشوة الخ.
هذا على مستوى الداخل… أما على المستوى العربي فسيكون أمام المتقدم لرئاسة مصر أن يخوض امتحاناً قاسياً: فالقادر على مساعدته من الأنظمة ليس حراً في تقديمها، حتى لو أراد، بل انه مضطر لأن يعود إلى «أصحاب القرار»، وأصحاب القرار دول كبرى بعيدة، يمكن اختصارها بالولايات المتحدة الأميركية، لها مصالحها ولها مواقفها ولها ارتباطاتها ولها حليف استراتيجي أوحد في المنطقة هو: إسرائيل.
إن الوصول إلى مقام الرئاسة خطوة أولى على طريق محفوف بالمخاطر.
إن المهمة ثقيلة لا يمكن أن ينجزها فرد أو مجموعة أفراد، أو حزب أو مجموعة أحزاب.
إن مصر أمام التحدي: أن تستعيد، ذاتها وروحها ودورها وقدرتها على الإنجاز.
وفي قرار تصدي المشير السيسي لهذه المهمة الجليلة شجاعة استثنائية.
مع تمني أن تستعيد مصر عافيتها ودورها في صناعة الغد الأفضل لشعبها ولأمتها التي تشرفها بموقع القيادة.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية