طلال سلمان

مع الشروق ## العروبة تتقدم الإسلام كهوية

نشأت أجيال عربية في ظل الإيمان بأن روابط عميقة من أسباب الحياة ووحدة الأهداف في التحرر والتقدم واستعادة الهوية القومية الجامعة تشد بعضهم إلى البعض الآخر، بمعزل عن البعد الجغرافي واختلاف الأحوال والمناخات السائدة.
مع بداية القرن العشرين أخذت هذه الروابط تتبلور في صيغة سياسية – عقائدية تؤكد على «العروبة» كهوية جامعة للعرب الذين عاشوا دهوراً تحت أنماط من السيطرة الأجنبية، أبرزها هيمنة العثمانيين على معظم أرضهم، بداية تحت عنوان الخلافة، ثم تحت العنوان التركي بعدما صار الحكم للسلاطين… وحتى بعد إسقاط «السلطنة» ظل الأتراك يسيطرون على البلاد العربية التي كان يتوزعها «الولاة» ثم الحكام العسكريون بعد تفجر الحرب العالمية الأولى.
ربما بسبب تراث الخلافة التي بدأت عربية ثم انتهت ممالك وإمارات مقتتلة، يحكم معظمها ولاة من غير العرب، قبل أن يحل «السلاطين» محل الخلفاء، بعد استتباب الأمر للأتراك، ظلت العلاقة ملتبسة بين دين الأكثرية، الإسلام، وهوية الأمة جميعاً، العروبة.
وعبر مواجهة قوى الاستعمار وارتفاع الدعوة إلى التحرر والاستقلال ومقاومة القهر الذي استطال قروناً، تقدمت الهوية الوطنية – القومية على الهوية الدينية، خصوصاً وقد باتت رموز السلطة الفعلية من غير العرب… وصارت العروبة عامل توحيد بين «المواطنين» على اختلاف أديانهم وطوائفهم.
تبدى واضحاً، آنذاك، أن لا فرق بين استعمار «إسلامي» ممثلاً بالسلطنة العثمانية وبين استعمار «مسيحي» مثله الاحتلال الأوروبي لمعظم الأقطار العربية: فالقهر واحد، ومحاولة طمس الهوية الجامعة تستهدف جميع «الرعايا» في مختلف الأقطار التي أعاد صياغتها الاستعمار «دولاً» وقسمها المنتصرون ـ بريطانيا وفرنسا أساساً ـ في ما بينهما حتى من قبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها. فمعاهدة «سايكس ـ بيكو» وضعت سنة 1916 و«وعد بلفور» بمنح فلسطين لليهود كي يقيموا دولتهم إسرائيل فيها أعطاه وزير الخارجية البريطاني سنة 1917.
ومؤكد أن الاستعمار الغربي قد حاول الإفادة من الحركة القومية، التي حملت عنوان العروبة، في نشأتها الأولى، ليوظف عداءها للاحتلال التركي في خدمة مشروعه للهيمنة على المنطقة العربية جميعاً، لكن ذلك لم يمنع هذه الحركة من أن تقاتل ضد الاستعمار الغربي في سوريا والعراق، وأولاً وأخيراً في فلسطين.
كان على العرب أن يخوضوا، بأنفسهم ومباشرة، حروب تحرير بلادهم من الاستعمار الغربي الذي حل محل الاستعمار التركي… وبين المفارقات أن تقسيم هذه البلاد فرض عليهم أن يواجهوا استعمارين في وقت واحد، وكذلك أن يواجهوا تخلف مجتمعاتهم وانعدام الحياة السياسية فيها بعد دهر الاحتلال العثماني الطويل، ثم سيطرة المستعمر الجديد قبل أن يلتقطوا أنفاسهم ويتقاربوا فيتواصلوا ويوحدوا جهودهم من اجل تأكيد انتمائهم إلى الأمة الواحدة وإنجاز الاستقلال في آن.
لم ينفع الغطاء الديني للعثمانيين ثم الأتراك (المسلمين) في إخراج العرب (المسلمين بأكثريتهم الساحقة، على اختلاف الطوائف) من ميدان النضال من اجل الاستقلال، وكانت العروبة رابطاً قوياً يجمعهم على هدف التحرر واستعادة هويتهم القومية الجامعة ولو فرض عليهم الاستعمار الغربي أن يتوزعوا على دول «مستنبتة» جغرافياً وليس لها ذكر في التاريخ.
ولم يكن الدين الحنيف أساساً لقيام هذه «الدول» في ظل الاستعمار، ولا هو كان بين أسباب بقائها بعد «الاستقلال»، خصوصاً إنها أطلت على الحياة «كدول علمانية»، ونصت معظم دساتيرها على أن «الإسلام مصدر أساسي للتشريع» لتنفي عن ذاتها الهوية الدينية توكيداً لأنها دولة مواطنيها جميعاً على اختلاف أديانهم».
وحيث قامت الدولة على أساس «ديني»، كالسعودية مثلاً، فإن المذهب الحنبلي بنسخته الوهابية السلفية قد همش إلى حد الطمس المذاهب السنية الأخرى، وكاد يكفر المنتمين إليها، فكيف بمتبعي المذاهب المختلفة كالسنة من الشوافع والمالكية والحنفية، ثم الشيعة والزيدية، فضلاً عن الإسماعيلية والدروز والعلويين الخ.
لقد اعتبر الإسلام السياسي «العروبة» عدوه الأول، وقاتلها بشراسة في فترة نهوضها، مقدماً التصادم معها على مواجهة الاستعمار، سواء بريطانياً كما في مصر وليبيا، أو فرنسياً كما كان الحال في لبنان وسوريا، وقبل الوصول إلى أقطار المغرب العربي، مثل تونس والمغرب ثم الجزائر التي قدمت مليوناً من الشهداء من اجل استعادة هويتها الوطنية التي يشكل الدين الحنيف احد أهم ركائزها، وإن هي لم تنهض بعد الاستقلال دولة دينية، بل عمدت إلى تأكيد عروبتها بمواقفها عموماً، وأبرزها مشاركتها في صد الحروب الإسرائيلية ونصرة الشعب الفلسطيني في نضاله من اجل تحرير أرضه.
وها هو الإسلام السياسي يتقدم الآن نحو السلطة بعدما نجح في ركوب موجة الانتفاضات العربية، مثقلاً بعقدة اضطهاده، في الماضي، مقرراً أن العروبة ـ وهي تتضمن الوطنية في جوهرها ـ كفر وشرك، مندفعاً إلى تقديم أوراق اعتماده إلى الإدارة الأميركية مع تزكية علنية من دولة العدو الإسرائيلي التي لم يجد مبرراً لمعاداتها.
اللافت أن «الإخوان المسلمين» قد سلكوا بعد قفزهم إلى السلطة من خارج التوقع، السياسة ذاتها التي يسلكها السلفيون: إذ تقدموا يطلبون التزكية والمساعدات الأميركية، ونافقوا الوهابيين في السعودية، وهم ـ نظرياً ـ خصومهم العقائديون، والقطريين الوهابيين أصلا وان استفادوا من الشيخ القرضاوي والتنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» للتمويه، ولأغراض سياسية…
وهكذا تلاقت فصائل الإسلام السياسي جميعاً في مناهضة «العروبة» وتكفير المؤمنين بها طريقاً إلى «دولة مواطنين لا رعايا»، والأخطر التنكر لحقيقة أن الأرض العربية «محتلة « سواء بالكيان الصهيوني أو بالهيمنة الأميركية ولو من دون جيوش احتلال، وان قرار من يرفعون الشعار الإسلامي من حكامها هو الخروج من موجبات المصير المشترك والمواجهة المفروضة مع أعداء هذه الأمة وطموحها إلى الوحدة والتقدم.
على أن الأخطر أن الإسلاميين عموماً يهددون اليوم بشعاراتهم كما بممارساتهم وحدة الأمة، بل وحدة كل دولة من دولها، وطموحها إلى الاستقلال والسيادة والكرامة… بل إنهم يهدرون كفاح أجيال من المجاهدين الذين قاتلوا حتى الشهادة من اجل الحرية والكرامة، واستمروا على إيمانهم بحق أمتهم ـ ودولها ـ بالاستقلال وبناء غدها الأفضل.
إن التاريخ هو أصدق شاهد على هوية الأمة. ويشهد التاريخ أن كثرة من المفكرين والمناضلين فضلاً عن الشهداء الذين صنعوا مجد العروبة المعاصرة عبر نضالهم الطويل الذين كثيراً ما قادهم إلى المواجهة مع الاستعمار بمضمونه السياسي وليس بالهوية الدينية للمستعمر، كانوا من مختلف أطياف هذه الأمة، ومنهم المسلم السني والشيعي والدرزي والعلوي والإسماعيلي والزيدي، وان ظل العديد من طلائعهم من المسيحيين.
والأمة بجميع أبنائها، ولجميع أبنائها، وليس لحزب فيها أو جماعة.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version