تتهاوى الدول في المشرق العربي، خاصة، وتتبدى ذاهبة إلى التفكك والاندثار، كاشفة عمق الغربة بين مجتمعاتها بعناصرها الآتية من عمق التاريخ وبين الأنظمة الحاكمة فيها.
تكشفت حقائق طمستها الحماسة للاستقلال والتحرر من نير الاستعمار. وتسبب الصراع على السلطة في إعادة تظهير الخلل في بنية نظام الحكم ومرتكزاته… وتدريجياً انتبهت شرائح في المجتمع انها مستبعدة عن السلطة، في حين كشفت الممارسات ان أقليات قد طغت على أكثريات، أو أن «الجهوية» قد تحكَّمت في اختيار القيادات، وأن الولاء للأقوى من بين النخب التي تصدت للحكم قد تجاوز الكفاءة والأهلية والتمثيل الجامع.
تدريجياً، وعبر الممارسات المحكومة بمنطق السلطة، برز الانفصام بين المكونات العنصرية والدينية والمذهبية التي تفككت بسرعة عائدة إلى جذورها التاريخية، فاضحة القصور في تعزيز الوحدة الوطنية الذي منع اندماجها عبر «الدولة» وفيها، كشعب بحاضر واحد ومستقبل واحد، وإن تعددت الأعراق حاملة تراث الماضي.
وشهيرة هي خطبة الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي وهو «يسلِّم» سوريا إلى دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، بشخص الرئيس (المصري) جمال عبد الناصر، إذ عدد في كلمته التاريخية العناصر المكونة للشعب السوري، وبعضها متحدر من تاريخ ما قبل الأديان وبعضها الآخر من مستولدات «الفتنة الكبرى».
هل من الضروري التذكير أن دول المشرق، وبالتحديد فلسطين ولبنان وسوريا والعراق (والأردن ضمناً) قد أقيمت نتيجة تفاهم بين مستعمريْن أجنبيين (بريطانيا وفرنسا) ووفق مصالحهما ـ وضمنها المشروع الإسرائيلي ـ وليس باعتماد حقائق التاريخ والجغرافيا وإرادة «الأهالي» فيها؟ … والتذكير بأن ثورات عدة قامت في العراق ضد نظام الحكم الملكي الذي أقيم فيه بمعزل عن إرادة شعبه، وضمناً ضد «كيانه» الذي لا سند له من التاريخ. وإذا كان معظمها قد فشل فذلك لا يعني انها كانت عبثية.
بالمقابل فإن العهد الاستقلالي الأول في سوريا قد أُسقط بعد أقل من أربع سنوات على إقامته من خلف ظهر «الثورة» ضد الاحتلال التي كانت أعجز من أن ترفض «الاستقلال»، وفي غياب السند الشعبي المتين الذي كان يجهر باعتراضه على الخريطة الانتدابية للكيان الجديد التي تجاهلت إرادة السوريين وتحدتها في الفرز والضم لاسترضاء تركيا في الشمال ومصالح بريطانيا في الشرق، مع ارتكاز على «الطائفية» في الغرب اللبناني بكيانه المدوّل.
لنعد إلى الحاضر فننظر فيه: لقد عاشت «دول المشرق» في اضطراب دائم، ونادراً ما استقر النظام الحاكم في أي منها.. وكان انعدام الاستقرار سبباً في تدمير الحياة السياسية المستولدة حديثاً، والاعتماد أكثر فأكثر على المؤسسة العسكرية التي تولت مقاليد السلطة فعلياً في معظم هذه الأقطار على امتداد نصف قرن أو يزيد، وإن كان يصح التأريخ بنكبة فلسطين في العام 1948.
في خضم الصراع المفتوح على السلطة، والذي حسمته في الغالب الأعم، المؤسسة العسكرية، تم تدمير الأحزاب السياسية (أحزاب البورجوازية الوطنية بداية، ثم أحزاب اليسار: البعث أساساً، وحركة القوميين العرب ثم التنظيمات الشيوعية التي كانت شبه موحدة، ولو بالموقف، فتمت بعثرتها).
كان بديهياً أن يشهد الصراع على السلطة مواجهات بالسلاح، أحياناً داخل الجيش الواحد، وغالباً مع المعارضات التي وجدت حاضناتها في حمى الأجواء المأزومة، بل الاشتباكات القائمة فعلياً بين الأنظمة العربية والتي اتخذت سياقاً خطيراً بتجاوزها السياسة إلى المستوى الديني (وإن استُخدمت في توصيفه تعابير طائفية ومذهبية مبعثها الفعلي الموقع في نظام الحكم وليس الثأر من التاريخ!).
… والصراع يستدرج «الدول»، وللدول مصالحها المتناقضة. والطائفية غطاء ممتاز لتمويه الصراع ونقله من المستوى السياسي إلى الدين او الطوائف. وصارت الاتهامات بالطائفية جاهزة. وإذا كان لبنان يحظى باستثناء دائم يتحول إلى رعاية دائمة، فإن دمغ النظام في سوريا، مثلاً، أو في العراق، بالطائفية أو المذهبية لا يمر مرور الكرام، بل هو يأخذ إلى إيران، ويضيف إلى القائمة اليمن.
عبر هذا الصراع كان لا بد من أن يتركز الهجوم على المؤسسة العسكرية، باعتبارها بيت الحكم وسنده وسيفه.
وسقطت بقوة الأمر الواقع المسلّمة التي تقول بأن «الحكم العسكري» أو «الحكم بالعسكر» هو الخيار الأوحد أمام الشعوب العربية… بل المؤكد أن الرأي العام العربي بات حاسماً في أن يكون الجيش جيش الدولة، أما حكم الدولة فلنخبها المدنية المؤهلة وعبر الانتخابات واللعبة الديمقراطية.
وإن كان من الضروري التنبه هنا لدور ما يسمى منظمات المجتمع المدني (N.G.O) التي تغلغلت وسط خرائب المجتمعات العربية، واقتربت من أن تكون «أحزاباً» أو مؤسسات «لاغية للأحزاب» خصوصاً أن تمويلها مؤمَّن من جهات غربية بينها الاتحاد الاوروبي، وبينها مؤسسات تموه دورها السياسي بشعارات العمل الاجتماعي، لكنها مؤهلة لتعطيل العمل السياسي، وبالتحديد الحزبي منه، وقادرة بإمكاناتها على استقطاب «النخب» خصوصاً أنها توسع نطاق اهتماماتها فتشمل الشباب وهواياتهم المختلفة وميلهم الغريزي إلى التصدي لدور ريادي في خدمة مجتمعاتهم.
على هذا فإننا أمام مشهد فريد في بابه:
أولاً ـ سقط الحكم العسكري باعتباره البديل الأفضل من حكم الإقطاع، وكذلك من حكم الأحزاب السياسية التي طالما استخدمها لتمويه هويته واستعار شعاراتها فلبسها فوق بزته العسكرية.
وليس من التجني الحكم بأن الأنظمة العسكرية قد دمرت الحياة السياسية في البلدان التي حكمتها طويلاً، بل أطول مما يجوز ومما تحتمل مجتمعاتها قيد التكوين، فأنهت فيها الوجود الحيوي للأحزاب والنقابات والهيئات الشعبية.
على هذا سيكون صعباً إلى حد يقارب الاستحالة ترميم الحياة السياسية، خصوصاً أن العالم ـ بشرقه وغربه ـ قد غادر منذ زمن صيغة الحزب الحاكم، بالمعنى العقائدي، وصار الحكم لائتلافات بين قوى سياسية تمثل او تحمل تطلعات مجتمعاتها إلى التقدم بالنهوض الاقتصادي.
في حين أن البديل المتاح في المشرق العربي هو نوع من الائتلاف بين الطوائف والمذاهب، لإقامة حكم مدني في ظاهره، طوائفي في حقيقته، لا يمكن له أن يمارس السلطة إلا في ظل حماية دولية ظاهرة أو مضمرة، لا تتعامل مع شعبه باعتباره واحداً، بل تراه وتعتمده كمجموعة من الطوائف والمذاهب تشكل مجموعات من الأقليات غير متناسبة الأحجام، ولكن من حقها جميعاً أن تتمثل في السلطة الجديدة تحت وصاية دولية معلنة.
وما جرى في العراق، في ضوء الهجمة الجاهلية بالشعار الإسلامي (داعش) كشف كيف أن الدول أسبغت حمايتها فوراً على الأقليات، تاركة الصراع بين الأكثريتين الشيعية والسنية يأخذ مداه على حساب الدولة العتيدة التي ستكون ـ متى تم استيلادها مجدداً؟ ـ كونفيدرالية طوائف وعناصر، للأقليات فيها مثل حظ الأكثريات وأكثر، لأنها «محمية»… مع أنها إلى ما قبل حملة «داعش» كانت تعيش آمنة في ديارها كما عبر التاريخ.
لقد تعامل الغرب الأميركي والأوروبي مع إقليم كردستان وكأنه الدولة الشرعية فأسبغ عليه حمايته، وتناوب الوزراء والجنرالات الغربيون على زيارته ولقاء مسؤوليه، وتزاحموا على تقديم السلاح والمؤن وسائر المساعدات، بل إنهم اعتمدوه كراعٍ ومصدر حماية للأقليات الأخرى (عرقية ودينية)، مكرسين اعتباره «الدولة» (ولو قيد الاستكمال)… في حين غابت بغداد الغارقة في الصراع على السلطة بين الشيعة والسنة، ثم داخل الشيعة كما داخل السنة، بينما «الدولة المركزية» تتوارى في انتظار معجزات يصعب توقع حصولها.
هل دار التاريخ بالأمة العربية دورة كاملة فعادت أو أعيدت ـ بمشرقها أساساً ـ إلى أول الخلق، وبالتحديد إلى ما قبل الدولة، بعدما انفتحت أرضها بالطغيان او بالهجوم المسلح لقوى آتية من الجاهلية مستظلة الشعار الإسلامي، معززة بسلاح لا تملكه إلا دول، متخطية حدوداً كان ممنوعاً القفز من فوقها إلى الوحدة، مثلاً؟
ثم، كيف توفر لهذه المجاميع من المسلحين بالشعار الإسلامي كل هذه الأكداس من السلاح الحديث؟ وكيف أمكنها تجاوز حدود دول كبرى في الإقليم (مثل تركيا)، وهل تم ذلك بترتيب معها أو بالخفية عنها وهذا مستحيل، لأن طوابير المقاتلين وقوافل سياراتهم لم تسقط من السماء بل اجتازت مساحات مكشوفة (آلاف الكيلومترات) وهي ترفع راياتها السوداء وهتافات الموت تتردد أصداؤها في دنيا العرب والمسلمين كافة بل، وتصل إلى أوروبا وأميركا فتثير الذعر.
ما قيمة الاستقلال وقد انكشف العجز عن حمايته وعن التقدم به إلى الغد الأفضل.
لنعد إلى الاستعمار، إذن.. وهذه المرة بالطلب، بل ربما بالاسترحام، وقديماً قيل في من عجز عن حماية ملكه في الأندلس:
أعطيت مُلكاً فلم تحسن سياسته
وكلُّ من لا يسوس الملك يخلعه
على أن الفارق أن الأوطان، لا الدول وحكامها فقط، هي التي تُدمّر من دون أمل في استعادتها، ولو مشوهة، في المدى المنظور.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية