طلال سلمان

مع الشروق الإدارة الأمـيـركـيــة تـبــدل ولا تـتـبــدل: يظـل الميـدان مفتوحــاً فننصــر الـثــورة

على امتداد دهر الصمت كان «الشارع» في مختلف العواصم العربية مقفلاً لا صوت فيه إلا صدى الفراغ المدوي.
كان «الشارع» هو العدو الافتراضي للحاكم الفرد الذي – بطبعه – لا يحب الازدحام، ويفضل ان «يتفرج» على الحشد المنظم من عل، وان يسمع عنه وليس منه بواسطة رجال أمنه المولجين بحراسة آذان «السيد الرئيس» ومزاجه.
أما «السياسة» فمصادرة: هي ميزة شخصية للطاغية. وبالتالي لا ضرورة لأكثر من سياسي واحد في البلد الواحد. كثرة السياسيين تفجر الخلافات وتأخذ الى الفوضى. لا بأس من ان يلعب بعض التكنوقراط دوراً في ترشيد الاقتصاد بما يناسب «السوق». لا بأس من الخبراء في تنشيط السياحة. لا بأس من بعض الجمعيات النســائية وبيــوت رعاية الأطفال لإظهار أعمق المشاعر الإنسانية عند «السيدة الأولى». لا بأس في أن يتولى بعض المثقفين مهمة الترويج للنظام نثراً وشعراً، غناء وتمثيلاً، في السينما والمسرح. لا مانع من الاعتماد على بعض الدبلوماسيين المحترفين في الترويج للقائد الفذ باستخدام الفنون الحديثة في مجال العلاقات العامة.
تم تصوير الشارع وكأنه شيء من الماضي وفيه، لا ضرورة له في زمن التواصل المباشر بأجهزته العديدة التي كان «النظام» يستخدمها لكي يعرف كل شيء عن كل الناس فيطمئن ويذهب الى النوم.
الشارع هو الفوضى. الشارع مساحة الخروج على النظام. الشارع يغري الشباب بالعبث بالأمن، بالتعديات ذات الطابع الجنسي، بالنشل وضروب الاحتيال..
ثم ان «الجماهير» تعبير بائد ينتمي الى زمن مضى. ذلك كان أيام الأحزاب والفرق بمعناها التقليدي: نظرية فلسفية وشروح معقدة لنظام حكم طوباوي وتنظيم سري وخلايا وفرق وقيادات هرمية وأسماء حركية… لماذا كل هذا التعقيد؟!
نظام الفرد يلغي الشعب، يلغي المؤسسات، يختصر «الدولة» في شخصه مع بضعة من المعاونين النكرات الذين يستمدون «مكانتهم» من قربهم من أذن «النظام».
تعاني الشعوب المنتفضة طلباً لحريتها من نقص معرفتها بذاتها. النظام يقفل الباب بينه وبين الناس. يبقي على اتصالاته بالعالم من فوق رأس الشعب. اذا سقط النظام الملخص بشخص فرد انكشفت «الدول» التي كانت تحكم رأس النظام وتقرر له وبالنيابة عنه. فالدكتاتور يعيش في عالم من الفراغ. انه يكتفي بذاته… فإذا ما احتاج «نصيحة» جدية بادرت الإدارة الاميركية الراعية الى تقديمها له.
«الشارع» العربي الآن أمام امتحان جدي الآن، الشارع بما هو «الشعب» جميعاً.
لم يسبق للشارع ان كان مصــدر القرار إلا في حــالات نادرة وفي لحظات استثنائية. وهو الآن أمام امتحان مصيري: بين محاولة تملقه واسترضائه بتنازلات جزئية وبين مواجهته بأن «تطرفه» قد يهدم «الدولة» كلها. ليس الطاغية شخصاً، انه النظام جميعاً، بمؤسساته التي كانت تحت إمرته، هو من قياداتها من بين «المخلصين»، وهو من يغطيهم بشرعيته.
كان لا بد من إسقاط الخوف للنزول الى الشارع. مع إسقاط الخوف سقط الطاغية الذي كان يتحصن فيه… ولكن النظام لا يسقط، بالضرورة، مع سقوط الرأس.
في قلب الشارع، تجلت القدرة على إسقاط النظام وتبدت الحاجة الى برنامج للتغيير. سقوط الرأس قد يتحول الى خدعة. رأى الناس أركان البيت الأبيض في واشنطن يواصلون إسداء النصائح علنا، وهم بالتأكيد بعثوا برسائل مباشرة الى الطغاة المستهدفين بالتغيير. وصلوا متأخرين الى تونس. حاولوا إنقاذ من يمكن إنقاذه من أركان النظام. لجأوا الى دفاترهم القديمة لعلهم يعرفون بعض من سمعوا أنهم من قادة الانتفاضة وحاولوا التواصل معهم.
مع ثورة مصر كان التواصل مباشراً وعلنــيا مع أركان النظام. أوفدوا رسولاً خاصاً للتطمين، تفرغت وزيرة الخارجية لإسداء النصائح، بهدوء أول الأمر ثم بنبرة فيها شيء من التهديد بعد ذلك. ثم كان لا بد من ان يتدخل الرئيس الاميركي الأسمر ذو الجذور الإسلامية ناصحاً، محذراً، وصولاً الى التهديد. وكان رئيس أركان القوات الاميركية يترجم بنبرة عسكرية كلام اوباما: هذه منطقة نفوذ لنا، ممنوع على غيرنا التدخل فيها. لنا القرار! حتى مع إسرائيل نحن من يقرر. نحن الضامن لاتفاقات كامب ديفيد، ونحن نثق بالتزام «النظام الجديد» في مصر بنصوصها ومضامينها.
أما مع ليبيا التي تجاوز قائدها الذي يرفض ان يكون رئيساً أو ملكاً أو إمبراطورا لأنه فوق ذلك، فقد قفزت الإدارة الاميركية من فوق الشعب الليبي لتتخذ الإجراءات اللازمة لحماية النفط. النفط أهم من الشعوب. ومجلس الأمن جاهز لكي يفوض الإدارة الاميركية بحماية مصالحها بما تراه مناسباً: المحكمة الجنائية الدولية، الحصار الصارم مع تهديد بالغزو المسلح.
… لكن الوقائع أثبتت أن وسائل الحماية الاستثنائية في قصور القذافي في المدن الليبية المختلفة هي من صنع مصانع متخصصة أميركية!
ومعروف أن «العفو» الاستثنائي عن ممارسات النظام الليبي، بما فيها مسؤوليته عن تفجير طائرة الركاب في الجو فوق لوكربي، لم يصدر إلا بأثمان باهظة، كان النفط بعضها، وكان التوقف عن المشاغبة على السياسية الاميركية في المنطقة بعضها الآخر، وكان التخلي عن الحماسة للقضية الفلسطينية والكفاح المسلح شرطاً أساسيا.
كذلك فإن الإدارة الاميركية وجدت نفسها «مضطرة للتدخل» في البحرين لكسر عناد الشيخ الذي صيّر نفسه ملكاً وإجباره على الأخذ بالحد الأدنى من الإصلاحات المطلوبة، بدلاً من مواجهة الشعب بالسلاح وارتكاب المجازر كما حصل في ميدان اللؤلؤة في اليوم الأول للاعتصام السلمي.
أما في اليمن حيث يستثمر النظام حكاية «القاعدة» لتأبيد حكمه فتجد الإدارة الاميركية صعوبة في فهم التركيبة العشائرية ومنطق الصراعات الجهوية ومكمن مفتاح الخلافات الفقهية بين الشوافع والزيود!
[[[[[[
لا تعني هذه الشواهد، بأي حال، أن الانتفاضات التي تشهدها الأرض العربية هي – لا سمح الله – من صنع أميركا بإدارتها وسفرائها وخبرائها الاستراتيجيين وقادتها العسكريين.
ولكنها تعني أن سقوط رأس النظام لا يعني انتصار الثورة، وان المهمة تبقى هي هي: اقتلاع النظام من جـذوره، برأسه وحكــومته ورموز سيطرته الأمنية والمدنية.. ومصدر حمايته في الخارج، أي الهيمنة الاميركية.
وفي تجربة تونس دخلت الانتفاضة في امتحان جدي أمام سقوط النظام: لقد نجحت في إسقاط الطاغية الذي هرب وهرّبت زوجته معظم الثروة المنهوبة، ثم رفضت التركيبة الأولى للحكومة الانتقالية، وبعدها واجهت المجلس النيابي بالحل، وساعدها حياد الجيش في مواجهة الجهاز الأمني الضخم والشرس لبن علي…
لكنها لم تكن تملك برنامج التغيير ولا عدته. فرضت حل الحزب الحاكم، ورفضت تولي قياداته أي منصب. قبلت مكرهة بتولي رئيس المجلس النيابي الرئاسة بالنيابة، لكنها بعد ساعات رفضته، وسلمت بتسمية رئيس للحكومة من خارج صفوفها، ثم انتبهت الى أن حكومته تضم بعض رجال النظام فضغطت حتى أخرجتهم، وعندما واصلت ضغطها اضطرت رئيس الحكومة ذاته الى تقديم استقالته على الهواء.
لا بأس من تحقيق برنامج الانتفاضة بالتقسيط. المهم أن يكون البرنامج واضحاً. والمهم الاهتمام بالدور الفرنسي المريب، السابق على الدور الاميركي واللاحق له، والكلام الغريب لوزيرة الخارجية الفرنسية اليو ماري، والتي كانت من قبل وزيرة للدفاع، عن استعدادها لتوفير دعم لوجستي للطاغية، اذا ما طلب، في مواجهة الانتفاضة… وقد كلفها هذا التصرف الأهوج منصبها!
لا صداقات للدول الكبرى. هناك مصالح. أما الدولة العظمى (وهي الآن الولايات المتحدة) فلا تتورع عن المشي فوق جثث «أصدقائها» اذا تطلبت مصالحها ذلك. ولنتذكر أن الإدارة الاميركية قد رفضت أن تقدم الملجأ أو حتى المدفن لشاه إيران الذي خلعته الثورة، وتركته يهيم على وجهه حتى تكرم عليه أنور السادات بمقبرة بعيداً عن القاهرة، وبذريعة «إكرام الميت».
وبين الدروس المستفادة من الانتفاضات الشعبية في مختلف جنبات الأرض العربية يتبين أن «الدول»، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية مستعدة للتضحية بالرئيس من أجل إنقاذ النظام، (مصر، تونس..) أو حتى للتضحية بالوطن ودولته من أجل إنقاذ «القائد» (نموذج ليبيا)، أو التضحية بالنظام والوطن والدولة و«القائد» من أجل النفط (اليمن) وحماية آباره الغزيرة في الجوار السعودي.
[[[[[[
ان بقاء النظام يعني ـ ببساطة ـ اغتيال الثورة.
ان الحكومة من النظام، والمجلس النيابي ومعه مجلس الشورى من أهل النظام، وقيادات الإدارات الأمنية والمؤسسات الحكومية من الأبناء الشرعيين للنظام. أي انتخابات نيابية في ظل هذا النظام (معدلاً) ستعود بهؤلاء الى المجلسين، فالحزب الحاكم كان يسيطر على أسباب الحياة جميعاً، وليس أسهل من عملية تبديل الأقنعة وشراء الرضا بإعلان الولاء للثورة.
(للمناسبة: هل ما زال الرئيس المخلوع حسني مبارك رئيساً للحزب الوطني؟ انه لم يستــقل علــناً، فضلاً عن كونه ما زال على صلة، كما تؤكد الشواهد، بأركان الحكومة التي عينها مرغما، لحظة اضطراره للتنحي).
ان مصدر السلطة في هذه اللحظة هو «الشارع» باعتباره مقر الثورة، منبعها ونهرها الجارف، والصورة الناطقة بوحدة الشعب وإرادته.
ومع التنبه لصعوبة الولادة الجديدة للحياة السياسية التي ستؤطر الثورة، فإن «الميدان» ما زال «مصدر السلطات» باعتباره التجسيد الفعلي للإرادة الشعبية… خصوصاً أن القيادة العسكرية التي أظهرت الكثير من الحكمة في مواجهة زلزال خلع الطاغية، تبدي استعدادها لتنفيذ الإرادة الشعبية بوصفها – في هذه اللحظة – مصدر الشرعية.
المهم ان يظل الميدان مفتوحاً لأهله الشرعيين، من أجل ان يتكامل الحدث التاريخي الذي اصطنعه الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، والبقية تأتي.
المهم ان يظل الميدان مصدر الشرعية من أجل تغيير يليق بالملايين التي فتحت باب الغد ليس في بلادها فقط، بل في الدول التي يحكمها الطغاة في أربع رياح الأرض.

تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version