طلال سلمان

معروووف

في الذكرى السادسة والاربعين لاستشهاد معروف سعد يفتقد اللبنانيون “الزعيم الشعبي”، بلا ادعاء او تمثيل، او حشد مفتخر من المناصرين ينتقلون إلى حيث يستدعون بوسائل نقل مريحة مدفوعة الكلفة، مع سندويشات ومرطبات…

“الزعامة” ذات فخامة، في الوقت الراهن: مواكبها سيارات مصفحة، تتقدمها دراجات الحراسة وتتابعها عيون الحرس ظاهراً او مموه الحضور بطريقة مفضوحة.

معروف سعد كان يمكن أن يبقى ضابط شرطة، متوسط الدخل وبلا عمل تقريباً…

لكنه كان وطنياً، والوطني عربي بالضرورة، وفلسطين قضية كل وطني… وهكذا لبى نداء فلسطين، وهكذا ذهب اليها مجاهداً. وقد زادت الهزيمة المفروضة على شعب فلسطين وسائر العرب، الذين كان عليهم أن يقاتلوا حكامهم قبل العدو الاسرائيلي، من عزيمة معروف سعد أن ينصر اهله اولاً، وان يكون معهم في مواجهة العسف والاهمال وتجاهل ارادتهم.

ولقد ظل معروف سعد في الميدان، يقاتل من اجل حقوق شعبه في الكرامة وتحسين شروط الحياة، حتى استشهد في الميدان مقدماً النموذج الفذ للقائد الشعبي المؤمن بحق باذلي عرق الجباه من اجل حياة كريمة، أن يعملوا وان ينتجوا فتتحرر ارادتهم ويمكنهم أن يختاروا بالتالي من يمثلهم.

معروف سعد زعيم شعبي طبيعي، عاش مع أهله، واستشهد من اجل ابسط حقوقهم المشروعة في أن يحيوا من عرق جباههم.

وها أن زعماءنا جميعاً، اليوم، يعيشون من عرق جباهنا.

حتى لا ننسى “معروووف……”

البداية منه، البداية عنه والخاتمة كما البداية منه وعنه واليه: معروف سعد.

.. وها نحن نرجع إليك في صيداك، صيدانا، صيدا الوطن والعروبة، المدينة لم تغب يوماً عن ميدان النضال، قبل الاستقلال ودولته التي منعوها من أن تكون دولة لكل أهلها، قبل الثورة في فلسطين ومعها وبعدها وفي ساحة الجهاد من اجل عروبتها وحق أهلها فيها.

نرجع إليك في صيداك، صيدانا، صيدا الناس الطيبين، البحارة والصيادين، التجّار وأهل الثقافة والعلم، المناضلين من اجل كل قضية عادلة.. المتطوعين لنصرة مصر جمال عبد الناصر في مواجهتها للعدوان الثلاثي، المهللين للوحدة بين مصره وسوريا العروبة قاصدي دمشق بأية وسيلة للنقل وكل وسيلة، المتبرعين بالدم وأساور الصبايا وخواتم الزوجات للثورة التي استعادت الجزائر بدماء المناضلين وجهادهم ومعهم المناضلات وبعض عناوينهن جميلة بوحيرد.

نرجع إليك في صيداك، صيدانا قلعة الوطنية وجمهور المقاومة، مقاومة الظلم والظلام، مقاومة حكم الطغيان في الداخل، مقاومة التبعية والارتهان للخارج، مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وطليعة مقاومته في لبنان منذ لحظة اختراقه السيادة وحتى التحرير الكامل والانتصار الباهر الذي كنت فيه برغم غيابك وقد إستحضرك جهادك وقائد النصر يُحيي سابقيه إلى جبهة المقاومة على الحدود وفي الداخل.

نرجع إليك يا معروف تحف بنا أطياف مصطفى وناتاشا وسائر الشهداء من أبناء صيدا ممن ساروا على درب المقاومة بعدك وبذلوا دماءهم من اجل تحرير لبنان ونصرة عروبته.

لم نضع عن صيدا يا معروف ولا هي ضاعت منا وعنا.

لا هي نسيت ولا أبعدنا النسيان عنها، عاصمة الجنوب، عاصمة المقاومة، عاصمة العمل الوطني، عاصمتك عاصمة كمال جنبلاط الذي تواكبنا ذكراه وقد التحق بك بعد سنتين لا أكثر، عاصمة المجاهدين الذين يعطون بغير منة ولا يطلبون بدلاً.

لقد أنكروا علينا صيدا زمنا، يا معروف..

لكن صيدا كانت الأقوى والأصلب والأثبت على إيمانها.

وها هي قد استعادت ذاتها واستعادتك واستعادت أهلها في الوطن جميعاً، ونبذت من حاولوا تزوير هويتها وتاريخها وأبطالها… وحاولوا إنكارك وأنت منها القلب.

أنت الجنوب وجنوب الجنوب.

قبل اغتيالك كنت الرمز، بعد اغتيالك صرت القضية.

تحية لك في ذكراك التي ستبقى موعداً لنا مع الغد الأفضل في صيدا كما في بيروت وطرابلس، كما في بعلبك وجزين وجونية وجبيل، في بنت جبيل كما في زغرتا والمنية والقبيات، في الهرمل كما البترون والكوره وسائر أنحاء لبنان.

أيها الأصدقاء،

فأما موضوع الندوة السياسية فهائل في شموله بحيث لا يكفي كتاب ضخم للحديث عن التحديات التي تعصف بلبنان والوطن العربي وشروط مواجهتها في هذه المرحلة الانتقالية بالغة التوتر.

على أنني سأجمل هذه التحديات، ما استطعت، وكذلك ما يمكن فعله لمواجهتها.

إننا نعيش أيها الأصدقاء، أيام الطوفان.

لقد مر دهر على هذه الأمة وهي مخدرة، ساكنة، صامتة، مغلولة الإرادة والقدرة على الحركة، ثم تفجرت إرجاؤها بالانتفاضة العظيمة بتأثيراتها التي يصعب حصرها ولا بد من مواكبتها وهي ُتسقط أنظمة الطغيان واحداً إثر الآخر، وتفتح الأبواب المغلقة أمام الغد.

من تونس إلى مصر فإلى ليبيا ثم إلى المشرق ببلاد الشام جميعاً وصولاً إلى اليمن، توالت الانتفاضات تملأ الميادين وهي تهدر بهتافها المنشي: الشعب يريد إسقاط النظام.

ولقد كانت الأنظمة متهالكة، مرتهنة للخارج وللعدو الإسرائيلي، معادية لطموحات شعوبها.. ثم أنها كانت متكاتفة متضامنة في مواجهة المعترضين أو الناقمين الذين يخرجون من أوطانهم ليبيعوا جهد عقولهم وعرق الزنود لكل دولة تقبلهم ولو في منزلة العبيد.

على هذا فالمهمات التي واجهت هذه الانتفاضات هائلة، وهي ثقيلة جداً، يمكن القول اختصاراً بأنها إعادة صياغة البلاد جميعاً، بنظامها واقتصادها واجتماعها، وكل ذلك بقدراتها الذاتية، ومن دون التطلع إلى الخارج حيث البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأهل النفط كلهم جاهزون لاغتيال الثورة بالذهب، وإلا فالفوضى الأمنية والضياع السياسي والجوع وافتقاد الطريق إلى الغد.

لم يكن لأي من الانتفاضات برنامجها السياسي المُعد مسبقاً،

ولم يكن لها قواها المنظمة والجاهزة للتقدم إلى السلطة وهي مؤهلة لمواجهة المخاطر المتربصة بها، في الداخل أساساً، ثم في الخارج.

وحدهم الإخوان المسلمون كانوا قوى ذات شعبية، نسبياً، إذا ما تمت مقارنتهم بالأحزاب والتنظيمات الوطنية والقومية وصولاً إلى نقابات العمال… وكانوا في حالة كمون فلما أسقط الميدان نظام الطغيان تقدموا ليخادعوا القوى الوطنية والتقدمية ويعرضوا عليها الشراكة، واثقين من أنهم الأقوى من أي تنظيم، بل ولعلهم الأقوى تنظيمياً من مجموع التنظيمات السياسية الاخرى.

كانت أنظمة الطغيان قد أفرغت البلاد من قواها الحية: لا أحزاب، فعلاً، ولا نقابات تمثل العمال حقيقة ولا رابطة جدية تجمع الفلاحين حول هدفهم الواحد.

… ولقد أمضت جماهير مصر، على سبيل المثال، ثلاث سنوات في الميدان، بملايينها التي لا تقع تحت حصر،

لكنها كانت جماعات، حشوداً من الناس مختلفي التوجهات والمشارب اجتمعوا فقط على هدف التغيير بإسقاط الطغيان.. حتى مع وعيهم بأنهم لا يعرفون ماذا عليهم أن يفعلوا في اليوم التالي، فلا قيادة تمسك بزمام الأمور، لا حزب ولا جبهة أحزاب وطنية موحدة الشعار والهدف ومؤهلة لمهمة خطيرة كالتي يفرضها إسقاط الطغيان وبناء النظام الجديد.

إن الحماسة وحدها لا تكفي لبناء الأوطان، لا سيما تلك التي ضربها الطغيان، فدمر القوى الحية في المجتمع ، وبث الوقيعة بين الناس، واشترى أو استرهن بعض قوى التغيير.

أيها الأصدقاء،

ما جئت لأنعي الثورات وميادينها التي تعيد صياغة تاريخنا.

لكنني، أستطيع القول بعد مناقشات مستفيضة مع شباب الميدان في القاهرة، وخلال زيارات تعددت خلال هذه السنوات الثلاث، أن علينا أن نصبر على شباب الثورة. الميادين لا تصنع نظامها في أيام أو أسابيع أو شهور. كذلك فقد التقيت العشرات من ثوار تونس ومن شباب ليبيا التائه بين الشعارات وبين التنظيمات التي فبركت على عجل وكانت خلاصة آرائهم متطابقة: ساعدونا لنعرف. نحن نجرب ونجتهد لكن المهمة تاريخية… إننا نحتاج وقتاً، والوقت ليس ملكنا بعد.

ثم من قال إن النظام القديم يسقط فعلاً بمجرد إسقاط رأسه؟

ومن قال إن بناء النظام الجديد مهمة سهلة، لا سيما في غياب حزب قائد، وهذا أمر بات من التاريخ، أو جبهة وطنية وانجازها مهمة تاريخية نبيلة، لا سيما إذا كانت القوى السياسية ضعيفة ومبعثرة ومختصمة.

أيها الأصدقاء،

إننا نعيش لحظة المباشرة في صنع تاريخ جديد لمنطقتنا، لامتنا،

وهي مهمة جليلة وشاقة بأكثر مما نظن، وتحتاج زمناً بأكثر مما نطيق

لكن كتابة التاريخ الجديد للأمة قد بدأت، وعلى جماهير الميدان مهمة جليلة: أن تحمي خط السير نحو التغيير بكل قواها.

لقد طويت صفحة سوداء من تاريخنا العربي،

وعلى شباب الميدان حراسة خط السير هذا بكل ما يملكون من جهد خصوصاً وان النظام الجديد الذي يولد الآن مهدد بحصار مخيف: حصار بالسلاح، وحصار بالجوع.

فلا إسرائيل التي تتظاهر بأنها غير مهتمة ستتوقف عن الضغط على النظام الجديد لتطويعه، وهي بهذا تكمل مهمة الدول الكبرى وبالتحديد الولايات المتحدة الاميركية في محاصرة الثورة تمهيداً لخنقها.

ولا الأنظمة المذهبة ستغفل عن التداعيات المتوقعة للثورة إن هي أفلتت من طوق الهبات والمكرمات الملكية والقروض الدولية فامتدت إلى سائر أنحاء الوطن العربي.

أيها الأصدقاء،

ويبقى أن أتوجه بالتحية إليكم جميعاً والى ابن عائلة الشهداء الذين قدموا دماءهم رخيصة من اجل هذا الشعب، بشخص المناضل الدكتور الصديق أسامة سعد،

شاكراً لكم إتاحة هذه الفرصة للقاء طال انتظاره.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة الفيت في مركز معروف سعد الثقافي ـ صيدا، الخميس 6 آذار 2014، لمناسبة الذكرى 39 لاستشهاد المناضل الوطني معروف سعد.

Exit mobile version