طلال سلمان

معاً.. نحن أفضل

سمعتهما تتحادثان. أرادتا أن أسمع وأتدخل إن شئت. وافقت واستمعت ولم أتدخل إلا قليلا. فهمت منذ الدقيقة الأولى أن الموضوع محل الحديث حساس. نظرة إلى وجه إحداهما وهي الأصغر تكفي للدلالة على أنني أمام نفس متمردة. لن تهدأ قبل أن تجد الدعم الذي تحتاجه لتغير تفاصيل فاصل من حياتها. تريد أن تجد عند صديقتها الأكبر سنًا هذا الدعم، والآن وبوجودي أتيحت لها فرصة لتشكيل ائتلاف من اثنين مؤثرين في دوائرهما بالسمعة والتجربة. لم أشك للحظة واحدة بعد الدقيقة الأولى في أن الصغيرة اتخذت قرارها في قضيتها قبل أن تأتي إلينا رغم علمها أن القرار في مجتمعنا يظل ناقص الشرعية والاحترام اللازم إلى أن يحصل على دعم ضرورى ومتفهم.


افتَتَحَت المقابلة بقولها لصديقتها “أشكر لك سرعة استجابتك لندائي. أؤكد لكِ أن هناك عشرات، بل ربما مئات، ينادين مثلي. يساعد الحظ بعضهن فيجدن من يستجيب للنداء في الوقت المناسب. أكثرهن لا يجدن الاستجابة أو تصل بعد فوات الأوان أو تأتي دون المستوى المرغوب. لا أبالغ ولا أسعى إلى تضخيم القضية، ولكني أعلم كما تعلمين بخبرتك، أن كثيرات ممن لم يلقين استجابة لنداءات بعثن بها أصابتهن أضرار متباينة. تشعرن بعدها بأن الدنيا على اتساعها ضاقت بهن وتركتهن بلا خيارات. أحد لم يستجب لصرخات بعض من صرخن وتأوهات بعض من انكسرن وتوسلات بعض من كدن يفقدن الأمل. هؤلاء في لحظة أو أخرى يتمنين الموت على قاعدة نسجتها عبر آلاف السنين نساء مع نساء جوهرها أن المرأة إذا احتاجت فنادت ولم تجد استجابة حق عليها الموت خيارا أفضل”.


توقفت لتلتقط أنفاسها المنهمرة بالانفعال وانتهزت الفرصة لتلتفت ناحيتي وتسأل “أراهن أنكم، أقصد كثيرين منكم أيها الرجال، لم يدركوا بعد هذه الحقيقة، ومن أدركها ربما لا يعرف كم صارت موجعة ومهينة لنا معشر النساء ويجب أن تكون كهذا لكم معشر الرجال”. اعتدلت في جلستي استعدادا لأتدخل ليس دفاعا عن جنس الرجال ولكن عن فريق منه بدأ بالفعل يدرك ويتحرك متآلفا مع فريق من نشطاء النساء أو مستقلا. فاجأتني بأن تمالكت بسرعة السيطرة على أنفاسها وعادت إلى حيث توقَفَت في الكلام لتواصل حديثها عن آلام النساء. نظرت إلى صديقتها الأكبر سنا وكأنها تستأذنها في أن تتحدث في حضوري فيما هو شأن يخص الصديقة أيضا. جاء الرد في ابتسامة تعلوها إيماءة ودودة وكأنها تقول “خذى راحتك في الكلام.. يعرفني كما يعرف كف يده”.


“لا أتحدث عن نفسي فقط ولكن عن ملايين، بل بلايين، النساء اللائي يطلبن من الرجال تلبية حاجة من حاجات الحب أو رغباته ويرفض الرجال الطلب أو يترددن في تلبيته. أعرف عن سنوات، وإن قليلة، قضيتها في حب رجل أنه لا يوجد ما هو أشد إيلاما وقسوة من ألم يتسبب فيه هذا الرفض. لا أظن أنى قابلت رجلا رفضت امرأة تلبية طلبه تألم كما تتألم امرأة رفض الرجل تلبية طلبها. قال لي معالج لجأت إليه أن الرجل بحكم تقاليد وأديان وتاريخ وخرافات ورثناها أو تشربناها يعتبر رفض المرأة عصيانا يعرضها للعقاب بينما الرفض للرجل حق إن شاء أن يرفض. هل أدرك رجل من الرجال عبر العصور كم هو مهين للمرأة أن يمتنع رجل عن إجابة نداء يلده حب مشروع وفي الغالب مقبول. بل أذهب إلى أبعد، وصديقتي هنا تؤيدني فهي نفسها كانت ضحية الفهم الخاطئ حين تصورت وهي في مقتبل شبابها أن الزواج يعني أن الطرفين توصلا إلى الصيغة التي تجعل رفض الرجل مفهوما وثمرة تراض وليس خيارا مقدسا بين قائمة طويلة من المقدسات الذكورية”. هنا تدخلت الصديقة الأكبر سنا بعد صمت طويل.

قالت “لا شيء، نعم لا شيء يعادل في قسوته رفض الرجل للمرأة، وبخاصة امرأة تحب. بل، وسأكون صريحة وأضيف، ولا يعادله حتى تردده الفاضح أو ما فشل في إخفائه من علامات رفض. يعني مثلا، وهذا هو ما حدث معي وتضررت منه وتألمت آلاما جساما، كنت ألمح قبل أن أطلب. وبعد الطلب أنتظر، أصبر وأصبر وأصبر ولا من مغيث. كنت ألهي كرامتي أو أعزز دفاعاتها بالبحث عن ذرائع ومبررات لرفضه أو تجاهله. خدعت النفس كثيرا. حبي له كان يجدد الصبر ويعززه. هذا الحب كاد يضعفني. أخجل منكما وأنا أعترف أنني أقف أمامكما بكرامة خدش الرفض سطحها، ولكني أهنئ نفسي بأنني بعد طول الصبر والمقاومة أفقت بعزم على الفرار قبل أن أعجز عن حماية كبريائي ضد كسر لن تعود بعده تلك الكبرياء ناعمة الملمس الخالية من خدوش. أعرف أنني تأخرت في اتخاذ قراري. أنت من جيل مختلف ولكني أتفق معك وإن متأخرة في أن البقاء زوجة بحب يتآكل وكرامة خدشت ثم انكسرت خيارٌ لا تتحمل عبء تكلفته امرأة حقا أحبت”.


تدخلت، أنا المنتمي إلى جيل ثالث وجنس ثان، لأبشر بأننا على أبواب ثورة سوف تغير الكثير من مفهوم الناس للحب وعلاقات المحبين ببعضهم البعض. كنت في هذه المقابلة شاهدا على اقتناعات متباينة لامرأتين من جيلين مختلفين. لاحظت مثلا أن الحب في فهم إحداهما أبدى ويستحق الصبر ثم الصبر ثم الصبر للمحافظة عليه ولدى الأخرى وظيفة يؤديها طرفان، يؤديانها معا فإن غاب أحدهما أو تراجع حرصه على تنميتها والارتفاع بها إلى مستويات أعلى صارت وظيفة مكلفة ومضنية وفي الغالب معذبة. لاحظت أيضا الفارق الواضح بين ما أحب أن أطلق عليها امرأة الألفية وامرأة الجيل الأسبق. دعونا لا نغفل حقيقة أن ابنة الألفية هى ثمرة حقبة الثورات المتلاحقة، في إقليمنا على الأقل، وأن هذه الثورات أجمعت على الإشادة بدور النساء في نشوبها وإرساء قواعد ومبادئ اجتماعية هى الآن تتجسد في دساتير وتشريعات كل الدول التي شهدت ميلاد ثم انكفاء هذه الثورات. نساء الألفية طموحات غير صبورات، ثائرات بطبعهن، دعاة مساواة مع الرجال سواء كانوا أحباء وأزواجا أم ذكورا تزدحم بهم الشوارع والمكاتب ويشتكون.

ثقي يا عزيزتي من جيل الألفية وأنت أيضا يا صديقتي من جيل قبل الألفية أن الرجل يبقى هو الطرف الثاني بامتياز إن تطور في الاتجاه الصحيح. قالها لي ناصح أمين قبل عقود عديدة: “وحدك يا بني سترى برج القاهرة مرتفعا جدا. مرتبطا بمن تحب ستراه أقل ارتفاعا”. أنا لست واحدا من كثيرين يثنون النساء عن العيش منفردات إن وجدن في ذلك الراحة والسعادة. ومع ذلك لا أخفي اعتناقي شعارا بسيطا لقنوني إياه وأنا شبل صغير في فريق الكشافة، أما الشعار، ولعله لا يزال ملصقا بحقائب كل الأشبال ومناديلهم الحمراء، فكان “معا.. نحن أفضل”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version