طلال سلمان

مصر تتصدر العرب في الحرب على الفتنة .. المصنعة!

هي الفتنة: أخطر أسلحة الدمار الشامل، ضد الأمة العربية، طائفة طائفة، عرقاً عرقاً، بلداً بلداً، من المحيط إلى الخليج وبالعكس ..
والفتنة أخطر أشكال الحروب الأهلية وأشدها تدميراً: إنها تدمر الأخوة ووحدة المصير، تغتال الأوطان، تقتل الدين وتنشر الفرقة وتسمم المناخ العام ..
ولقد وجدت الفتنة من يشعل نارها بداية في العراق، مع اجتياح القوات الأميركية له، في مثل هذه الأيام من العام 2003، حين قرر الاحتلال ـ وبقصد مقصود ـ أن يسلم الطاغية صدام حسيين إلى الشيعة، الذين كانوا قد عانوا من ظلمه وتجبره واتخذهم معبراً في الذهاب إلى إيران ثم في العودة منها، وبعد ذلك في العبور إلى الكويت وعودته في ظلال الهزيمة وانسحاق الجيش فيها..
ومع تفجر الأوضاع في سوريا، لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى وسياسية من بعد، حاولت جهات كثيرة، عربية بالأساس، ومنها تركيا أن تحولها إلى فتنة طائفية، تحت عنوان “انتفاضة السنة ضد الحكم العلوي”، خصوصاً وأن إيران اندفعت تسابق روسيا على مساندة النظام، يتقدمها “حزب الله” اللبناني ..
وكان طبيعياً أن تطاول ألسنة النار لبنان بوضعه الهش، وهو الخارج من حرب أهلية ـ عربية ـ دولية امتدت لأكثر من خمسة عشر عاماً وتركت جراحاً غائرة في هذا الوطن الصغير الذي تتسع مساحته الضيقة لأكثر من خمس عشرة طائفة، بعضها جاءته لاجئة من العراق ـ الفتنة (الكلدان) وبعضهم من أقباط مصر (في الستينات) وبعضهم من أثرياء سوريا (مسيحيين ومسلمين) بعد عمليات التأميم في أيام دولة الوحدة ..
وفي السنوات الأخيرة، تم تحويل الصراع السياسي في اليمن إلى فتنة طائفية حين تدخلت السعودية عسكرياً لمساعدة “الشوافع” من السنة، بينما اتهمت إيران بمساندة “الزيود”، بمذهبهم الذي يعتبر الأقرب إلى الشيعة ..
كذلك تم تزوير طبيعة الصراع بين الحكم الملكي في البحرين والمعارضة التي صنفت “شيعية” مع أنها كانت تضم طلائع متقدمة من شباب هذه الجزيرة التي يختلط في شعبها السنة والشيعة بالمصاهرة وصلات الرحم وأفكار التقدم حتى لتمحي الفروق المذهبية ..
ولطالما شهدت مصر، لاسيما عند محطات مفصلية، محاولات لإثارة الفتنة بين أبنائها الذين كانوا ابناءها على امتداد تاريخها … ولكنها كانت دائماً أقوى من الفتنة بوحدتها الوطنية التي أكدت صلابتها دائماً، وها هي تجدد التزامها بموجباتها بعد تفجير الكنيستين في طنطا والإسكندرية… خصوصاً وأنها شهدت، عبر تاريخها، موجات ومحاولات متعددة لإثارة الفتنة، وهي التي عرفت أنماطاً متعددة من التدخل الاستعماري في شؤونها الداخلية منذ حملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر وحتى ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.
وليست مبالغة أن الوطن العربي، بمختلف أقطاره، يعيش أخطر مرحلة في تاريخه الطويل، سياسياً واجتماعياً، وأكثرها دموية، نتيجة ضرب السياسة بالفتنة وتحويل الصراع السياسي إلى مشاريع اقتتال أهلي، طائفي كما في المشرق العربي وصولاً إلى مصر، قبلية وجهوية كما في ليبيا، وعرقية أو “قومية” ـ عرب وبربر ـ كما في الجزائر.
لقد ضربت الحركة القومية ـ التقدمية التي احتلت المسرح السياسي مبشرة بمستقبل افضل في الثلاثينات والاربعينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، وهي هي التي كانت العاصم من الفتنة، خصوصاً وأنها قادت النضال الوطني ضد الاستعمارالأجنبي (الفرنسي في لبنان وسوريا، والمغرب العربي باقطاره تونس والجزائر والمغرب، والإيطالي مع البريطاني والفرنسي في ليبيا)..
ولم تكن مصادفة أن يقود مسيحي أرثوذكسي لبناني (أنطون سعادة) الحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان وسوريا وفلسطين، وأن يبشر مسيحي أرثوذكسي سوري (ميشال عفلق) بحزب البعث العربي الاشتراكي بشعار الوحدة، ثم أن يبشر مسيحي أرثوذكسي فلسطيني (الدكتور جورج حبش) بالعروبة (حركة القوميين العرب)..
وكان المسيحيون في مصر قد شاركوا في قيادة ثورة 1919 في مصر، واحتل بعضهم مناصب قيادية في حزب الوفد بقيادة سعد زغلول..
ليست هذه صفحات مقتطعة من تاريخ هذه الأرض بأهلها الذين كانوا أهلها على امتداد ماضيها وحاضرهم، وبرغم التركة الثقيلة للحقبة الاستعمارية الطويلة التي بدأت مع الحروب الصليبية واحتدت عبر السلطنة العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى ليحل محلها البريطانيون أساساً ومعهم الفرنسيون في سوريا ولبنان… وهي المرحلة التي شهدت التأسيس للكيان الصهيوني في فلسطين..
وطبيعي أن تهز الضربتان الاجراميتان اللتان استهدفتا الكنيستين في كل من مدينتي طنطا والإسكندرية الشعب المصري، بل والعرب جميعاً، خصوصاً وأن ثلاثاً بل أربعاً من الدول العربية تعيش في ظلال الفتنة الطائفية، بين المسلمين والمسلمين، أساساً، مع مخاطر الاستثمار في فتنة إسلامية ـ مسيحية جديدة في مصر..
أخطر ما في هذا الواقع أن بعض الفتن التي تضرب المشرق العربي، من اليمن حتى سوريا، إنما تغذيها أنظمة عربية مذهبة ليس في نهجها السياسي ما يشد الجمهور العربي لذلك تعمد إلى محاولة إثارة الفتنة، بين السنة والشيعة أساساً، كما في العراق، أو بين السنة والعلويين، كما في سوريا، أو بين الزيود والشوافع كما في اليمن، وبعض هذه الدول العربية تتواطأ مع تركيا أردوغان، الطامح إلى استعادة أمجاد سلاطين بني عثمان، والذي يحتل عسكره بعض أنحاء الشمال العراقي بالتواطؤ مع الملا البرازاني، والذي لا يتعب من محاولة احتلال بعض المناطق في الشمال السوري للمساومة عليها مع الروس، فضلاً عن النظام في دمشق، وبذريعة طائفية بل مذهبية فاقعة..

*****

أخطر ما في الواقع العربي أن الأنظمة قد تجرأت على شعوبها باستخدام الإقليمية أو الكيانية لتموه الطائفية والمذهبية، فتقضي بذلك ليس فقط على المشاعر الوطنية بل ولتسفه أيضاً القول بالعروبة بوصفها الرابط القومي، بل المصيري بين العرب، مشرقاً ومغرباً.
إن ضرب الكنيستين في كل من طنطا والإسكندرية بمصر قد هز أمة العرب في مشرقها والمغرب بقدر ما هزها اجتياح “داعش” لبعض أنحاء العراق وصولاً إلى الموصل التي يسعى جيشها الآن لتحريرها، ولو بكلفة عالية، وكذلك بقدر ما تهزها مأساة سوريا عبر الحرب فيها وعليها والتي يحاول السفاحون تصويرها حرباً طائفية، وبقدر ما تهزها ضربات التفجير التي تستهدف إثارة الفتنة في لبنان، فضلاً عن الحرب ـ الفتنة التي يديرها السعوديون ومن معهم ضد شعب اليمن تحت الشعار المذهبي.
إن المطلوب في هذه الأقطار كافة إثارة الفتنة الطائفية التي يمكن لنارها أن تلتهم العروبة والوطنية والدين وتحول الشعب الواحد إلى طوائف ومذاهب مقتتلة إلى يوم الدين..
إن المطلوب ضرب الهوية الجامعة لكل شعب من شعوب هذه المنطقة التي طالما وحدتها، في ماضيها كما في حاضرها، العروبة، بما هي رابطة جامعة تعلو على الدين من دون أن تلغيه، وتتجاوز الطائفيات والمذهبيات بما هي عودة إلى الأصل، أي إلى التاريخ والجغرافيا، إلى الحاضر بكل اشكالاته تطلعاً إلى مستقبل الاستقلال الحقيقي والسيادة الفعلية بعيداً عن مناطق النفوذ الأجنبي والذي يمكن اعتبار إسرائيل العنوان الحقيقي للمستقبل الذي يراد أن “يعتقل” العرب فيه، كأسرى حرب.
إن الفتنة أخطر ما يهدد المستقبل العربي في مختلف الأقطار التي تكاد تفقد هويتها الجامعة.
ودور مصر أساسي في وأد الفتنة وحماية المستقبل العربي، خصوصاً وأقطار المشرق، من اليمن حتى الشاطئ اللبناني، مروراً بالعراق وسوريا، غارقة في دماء أبنائها تتطلع إلى مصر بوحدتها الوطنية الصلبة، لتكون الرائدة في ضرب الفتنة وحماية النسيج الوطني ـ القومي للأرض العربية بكاملها.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version