طلال سلمان

مشكلات أمريكا تزداد تعقيداً

يحدث في أمريكا الآن ما يقلق. يحدث ما يقلق أمريكيين على أمن بلادهم ومستقبل السياسة فيها ولا بد أن يقلقنا على الأمن العالمي والسلم الدولي. تابعت عن قرب وباهتمام النقاش العام الدائر حاليا في أمريكا، لاحظت أنه حول عدد من القضايا تجاوز الهدوء والاعتدال فكان حادا وأحيانا عنيفا. لاحظت في الوقت نفسه أن دولا عديدة راحت بسبب القلق وعدم التأكد من مستقبل التطورات الأمريكية تفتح أبوابا في سياساتها الخارجية كانت في الغالب مغلقة لمدة طويلة وتجرب سياسات كان مجرد التفكير فيها والنصح بها مغامرة خطيرة. أحصيت عدد القضايا أو المشكلات محل اهتمام الرأي العام وسبب القلق. فوجئت بالعدد كما سبق وفوجئت بعنف نبرة النقاش والخلاف فاخترت بعضا ربما لأنه بدا لي كاشفا أكثر من غيره عن عمق التغيير الحادث في أمريكا وتعقيدات الأوضاع الاجتماعية والسياسية.

أولا: قرأت ما نشر رسميا عن استراتيجية الرئيس دونالد ترامب الجديدة لإدارة الحرب في أفغانستان، قرأت أيضا دوافعها وتبريرات لها وقرأت انتقادات وجهت إليها وتابعت النقاش حولها. هذه الحرب ليست حربا من حروب أمريكا العادية والكثيرة. هي الحرب الأسخف والأطول والأغلى تكلفة، وهي الحرب التي عجز رؤساء عديدون عن تحقيق نصر أو تهدئة أو اتفاق يسمح بالخروج منها.

ألقى الجنرال جيم ماتيس وزير الدفاع والجنرال جوزيف دانفورد رئيس الأركان ببيانيهما وشهادتيهما وإجاباتهما أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ ثم أمام المجلس مكتملا عرضا فيها الاستراتيجية الجديدة ودافعا عنها. قالا إنه على عكس حربي العراق وسوريا حين كان الهدف تدمير الدولة الاسلامية تعمل القوات المسلحة الأمريكية طبقا للاستراتيجية الجديدة في أفغانستان لتحقيق هدف إقناع طالبان بأنهم لا يمكن أن ينتصروا وبالتالي ضرورة أن يدخلوا في مفاوضات مع الحكومة. المرحلة القادمة في الحرب الأفغانية ستكون مرحلة “كسر إرادة” طالبان بخلق الطروف الكفيلة بإقناعهم بعدم جدوى استمرارهم في الحرب.

أما الخطة المزمع تنفيذها في المرحلة التي بدأت بالفعل فتقضي بوضع خبراء من حلف الناتو والجيش الأمريكي في جميع وحدات الجيش الأفغاني المتمركز على خطوط المواجهة. يعني هذا الحاجة الماسة إلى استدعاء حوالي ثلاثة آلاف جندي جديد إلى قوات التحالف. القتال الفعلي سوف يبشاره الجنود الأفغان وتبقى مهمة خبراء التحالف النصح والإرشاد واستدعاء القوات الجوية عند اللزوم. كان القادة الأمريكيون قد توقفوا منذ عام 2014 عن دعم القوات الأفغانية بالطيران. بمعنى آخر يعتبر تدخل الطيران التغيير الأهم في الخطة الجديدة.

***

التغيير الثاني في خطة الحرب الأمريكية في عهد ترامب هي امتناعها عن تحديد جدول زمني للانسحاب من أفغانستان، بعد أن اتضح للقادة الأمريكيين أن طالبان استفادوا من كل مرة حددت أمريكا موعدا لانسحابها.

أقر ماتيس ودانفورد بأنهما يعتبران النصر تحقق حين يعلن طالبان استعداده الجلوس إلى مائدة مفاوضات مع حكومة كابول، أقر أيضا بأن الجيش الأمريكي مستعد بشروط معينة لدعوة طالبان مشاركته مطاردة داعش والقاعدة.

الخلاصة التي توصل لها شيوخ الكونجرس الأمريكي هي أنه (1) لا خروج من أفغانستان (2) حروب أمريكا من الآن فصاعدا سوف تعتمد على خبراء ومستشارين ودعم جوي. (3) التركيز على باكستان لإضعاف دعمها لطالبان.

بمعنى آخر لا يخفى على أحد أن أمريكا محشورة في حرب لا تعرف كيف تخرج منها وقد لا تخرج أبدا، وهو ما عبرت عنه السناتور إليزابيث وارين بقولها هي إذاً حرب إلى الأبد.

ثانيا: هي مذبحة لا شك فيها تفوق كل ما سبقها من أعمال عنف أو قتل جماعي، مثلما وقع ضد تلاميذ مدرسة أو متسوقين أو في ساحة جامعة أو أخرى. ما حدث في لوس أنجلوس أصاب المجتمع الأمريكي إصابة بليغة. لم تقتصر أسباب القلق على تهاون وتقصير أمني سمح بإدخال أسلحة غير عادية عددا ونوعا إلى غرفة في فندق كبير في وسط واحدة من أهم وأكبر مدن أمريكا، بل تعدت التقصير الأمني إلى حقيقة لم تغب يوما عن الأذهان وهي خضوع الدولة الأمريكية التي تجاوزت سمعة جبروتها وكفاءتها الآفاق، خضوعها ضعيفة مذلولة لهيمنة صناعة الأسلحة الخفيفة. مرة أخرى يقف رئيس الدولة وقادة نوابها وشيوخها ساكنا بل مشلولا لا يتجاسر بإعلان نية ولو مؤجلة التنفيذ لإصدار تشريعات تحد من انتشار الأسلحة الخفيفة وبخاصة بعد أن صارت أنواع منها تندرج تحت فئة الأسلحة الثقيلة. كيف يمكن أن يأمن المسؤولون عن الأمن الداخلى إلى وجود هذا العدد الهائل من قطع الأسلحة في المساكن ودور العمل الخاص في مجتمع يمر بحالة اضطراب اجتماعي شديد وغضب عارم؟ من ناحية أخرى لا يخفي علماء اجتماع وسياسة خشيتهم من تأثير هذا الصدع في بنيان السلطة على احترام الجماهير لها. أضف إلى ماسبق الغضب المتنامي لدي قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى على الزيادة الكبيرة في نفوذ ناخب متطرف من أصول بيضاء ومن رئيس ومساعدين متعاطفين معه أو معتمدين على وجوده ورضائه.

ثالثا: عرفنا أمريكا مجتمعا حافلا بانقسامات من كل نوع ولون ودين، ولكن انقساماته الراهنة تجاوزت كل التوقعات والمخاوف حتى أن أحد المؤرخين راح يشبه وضع المجتمع الأمريكي الحالي بوضعه في أعوام الخمسينات من القرن التاسع عشر، أي في الأعوام التي سبقت مباشرة نشوب الحرب الأهلية الأمريكية. يبالغون أو لا يبالغون يبقى أمامنا الواقع شاهدا على الخطر الذي صارت تمثله الانقسامات الراهنة.

حقيقة، وللآسف، لا أعرف من أين أبدأ لحصر هذه الانقسامات والشروع في فهم أسبابها وتقدير خطورتها على الاستقرار في أمريكا والأمن في العالم.

هل أبدا بالانقسامات في البيت الأبيض بعد أن راح معلق مخضرم يشبهه بدار حضانة، لا يتوقف فيه التلاميذ، وكلهم كبار، عن الشجار، ويفشل المعلمون والمربون في ضبط النظام وفرض الاحترام المتبادل. يزداد الوضع بؤسا عندما يكون رئيس البيت الأبيض، وهو رئيس للدولة الأمريكية العملاقة، طرفا في شجار عقيم وغير جائز وقوعه أصلا. الرئيس يهدد دولة شريرة أو عصية أو فاشلة بالدمار الشامل إن هي اختارت طريق التصعيد في العلاقة مع أمريكا. يعلن بوب كوكر رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ أن تهديدات ترامب لكوريا الشمالية تضع أمريكا على طريق الحرب العالمية الثالثة، ويضيف بأن كل أعضاء اللجنة تقريبا لديهم هذا القلق. أما وزير الخارجية، فبحكم مسؤوليته الدبلوماسيىة راح يصيغ رسائله إلى كوريا الشمالية بصياغات تشجع حكامها على سلوك طريق التفاوض. مالت الخارجية الأمريكية إلى رأي محترم سجله توماس شيلينج قبل أكثر من خمسين عاما في كتابه، أو بالأصح المرجع الشهير، بعنوان “استراتيجية النزاع”، كانت نصيحته لطرفي نزاع دولي أن يبذلا الجهد المناسب لخلق نقطة تركيز تقودهما بعيدا عن الحرب. يخرج الرئيس الأمريكي فيسخر من صياغات وجهود وزير خارجيته فيلجأ الوزير إلى أسوأ ما في جعبة مفرداته ليصف الرئيس بأنه مغفل. نعلم الآن أنه إذا رحل الوزير ركس مقالا أو مستقيلا فسيكون واحدا من عديدين لم يتحمل نصائحهم الرئيس أو لم يتحملوا تهوره سواء صدر هذا التطور عن مرض عصبي حقيقي أو عن انحيازات عنصرية وجنسية وطبقية متطرفة.

***

الكونجرس بدوره يشهد انقسامات يبالغون فيصفونها بغير المسبوقة. هي بالفعل في بعض تجلياتها جذرية وتاريخية. وأظن أن كثيرا منها يعكس حال المجتمع الأمريكي. لا يمكن إنكار أن انسياق أمريكا في تيار العولمة بل وقيادتها لها تسببتا في تغييرات اجتماعية وسياسية مثلها مثل عديد المجتمعات وربما أكثر. هناك تبلور أشد، إن صح التعبير، لمسألة الهويات وقضايا العقيدة الدينية واندحار فئة العمال البيض ومكانتهم الاجتماعية وانكشاف الفجوة بين الثروات وازدياد رقع الفساد وصعود دور الشباب في الخيارت الاجتماعية والأخلاقية على حساب الأهل وكبار السن وتغلغل ثقافة الميديا الاجتماعية واستخداماتها السياسية والاستخباراتية. هذه التغيرات وغيرها لها الفضل في أن يدخل الحزب الديموقراطي الأمريكي مرحلة جديدة قد تنتهي به في حيز يسار جديد ومختلف ويدخل المحافظون تجربة جلد الذات بسبب الظروف التي تركت تتفاقم حتى وصلت بدونالد ترامب إلى الحكم من خارج إرادة الحزب وضد مشيئته أو بسبب الفوضى الناشبة في داخله.

رابعا: دخل الرئيس في نزاع علني مع من هم أكثر منه شعبية وثراء، وأقصد لاعبي كرة القدم الأمريكية والشركات الكبيرة التي تدير هذه اللعبة. يتجاهل الرئيس المتعصب لأصوله الأوروبية البيضاء أن الأمريكيين السود من أصل إفريقي ما زالوا يشعرون بالظلم الاجتماعي والتفرقة. لا تزال اللبنة الأساسية في هيكل التفرقة العنصرية قائمة وثابتة، وهي الخلاف حول سبب تخلف السود، الأمريكيون الأفارقة يتهمون التفرقة العنصرية بأنها العقبة أمام صعودهم في سلم لمجتمع، أما المتطرفون البيض فيلقون باللوم على طبيعة العنصر الأسود أو كسل السود ونقص إنتاجيتهم وكرههم للعمل. رئيس الدولة يريد معاقبة اللاعبين الذين يرفضون تحية العلم والنشيد الوطني واللاعبون يصرون على أن يركعوا على قدم واحدة دليل احتجاجهم على استمرار التفرقة العنصرية. مرة أخرى تتصدر أزمة الهويات المشهد السياسي الأمريكي. مرة أخرى ينقسم المجتمع الأمريكي انقسات حادة حول الموقف من هذه المواجهة.

***

نعم يحق للأمريكيين أن يقلقوا. نحن أيضا يجب أن نقلق. لنا تجارب بشعة مع رؤساء أمريكيين سابقين. هناك رئيس أسبق، ما يزال حيا وجماعته كذلك، ارتكب في العراق هو جماعته ما يستحقون عليه محاكمة دولية على ما ارتكبوه ومعهم السيد طوني بلير من جرائم في العراق ترقى في اعتقادي الشخصي إلى مرتبة جرائم حرب. لا يخفف من غضبي وقلق الملايين غيري أن يقال لي أو لأولادي من بعدي، آسفين، كان يحكمنا في أمريكا رجلا مغفلا أو أحمق أو مصابا بلوثات بسيطة أو مركبة. أو أن يقال كان يحكمنا رئيس ونظام حكم لم يحسنا إدارة صراعات المجتمع الأمريكي الداخلية والخارجية على حد سواء.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version