طلال سلمان

“مشقة العيش المشترك.. الخيانات المتبادلة”

نحن في لبنان، فلنسأل كيف نحيا؟

سؤال يصل الى مساءلة السياسة والأخلاق والقيم والشعوب.

سؤال يتصل بالمشاهد التراجيدية للبشرية، مذ أساء الناس العيش بسلام. سؤال يحاول أن يكشف صعوبة العيش معاً، في بلاد أو في وطن أو دولة.

نحن في لبنان، لا نعرف كيف نعيش معاً، ولسنا وحدنا. المشرق يمعن في تكبيد الحياة خسائر طافحة بالتوحش. تاريخ يضاف الى حروب مستعادة. المجازر مولود طبيعي. الموت هو البديل الحيوي للحياة. ما يرتكب اليوم، سبق وارتكبه بشر من قبل، بأهداف وضيعة أو نبيلة، متواضعة أو باهرة. حروب الأخوة أشد فتكاً، من يمنحها البراءة. لا غالب ولا مغلوب، لا تقنع أحداً. المغلوبون هم القتلى و”الشهداء”. ماتوا كي نحيا. كذبة. الموتى هزموا الى الأبد. الناجون يمسحون ذاكرتهم بالنسيان.. نسيان الجريمة.

نحن في لبنان. “العيش المشترك” مخضب، هو دائماً على حافة الكراهية وفي قلب الخوف وفي ملاجئ الحماية. الخوف من الغلبة، التخوف من الخسارة، الشك بالشريك، الإتهام المتبادل بالخيانات الكبرى وعظائم الأمور…. حدث ذلك مراراً، من قبل تأسيس الكيان ومن بعده.. وحتى الآن. ما شذ لبنان عن الحروب الدورية. هاجسه شريكه. دورات العنف والخلاف يفوز فيها الأسوأ دائماً. عسكر الحروب اللبنانية في السلطة وفي زعامة الطائفة. وحدهم موجودون. يؤلفون عصابة لقيادة دولهم الأقوى من الدولة.

نحن في لبنان. “العيش المشترك” رصيد لتقاسم السلطة وصرف النفوذ وإرضاء الشريك المقيم خارج الحدود. لا حياة مشتركة. هناك أماكن إقامة نقية، سنية، مارونية، درزية وشيعية. يسمونها بيئات حاضنة (!) تعيش الأقليات في هذه الكانتونات عقدة نقص وخوف من الدونية. الحياة، الجديرة باسمها، هي في مكان آخر. استقلّت الحياة في لبنان عن السياسة. حياة اللا منتمين لبلد أو قضية أو مبدأ.

حياة على حافة العبث. إدراك عميق أن لا علاج لأي مشكلة (كهرباء، نفايات، ماء، صحة، تربية، تعليم، جامعة، تنمية، ديون، نهب… وباختصار، كل الموبقات هنا). العجز هو العقيدة الراسخة.

نحن في لبنان. اشجع من فيه، هم اليائسون. من قال أن اليأس هدام. انه يأس جميل ونهائي وقاطع. يأس من السياسة والسياسيين، من الطائفة والطائفيين، من القيادات واتباعهم، من المؤسسات ومن فيها، من العدالة ومن يزني بها… يأس تام، يقطع العلاقة مع الخراب الروحي والمادي، بما كان سيكون وطناً، ولم يكن… هؤلاء الطفار، انصرفوا الى الثقافة والفن والمسرح والإبداع والكتابة الصعبة. هم وحيدون جداً، ولكنهم ممتلئون حياة وعطاء. يخطون حياتهم بما تيسر من فرح الاكتشاف. هؤلاء، هم صعاليك لبنان الرائعون، هم لبنانيون حقيقيون، لا تهمهم السياسة أبداً. يعتبرونها فضيحة كالقحبة. أيقنوا أن ما تعلموه عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والنبل والمساواة، ينتمي الى مشروع دولة فاضلة بحدود المشتهى، هم لبنانيون حقيقيون بمقدار ابتعادهم عن لبنان السياسي / الطائفي.

أجمل ما فيهم، انهم أفراد مستقلون جداً ومرهفون إزاء القضايا الإنسانية والوطنية، اللبنانيون الطائفيون لا يتمتعون بصفة الوجود. انهم غير موجودين. وجودهم مشتق من وجود الطائفة وزعيمها. وبين هذه الطغمة العفنة والرثة والموبوءة، متعلمون في كافة الاختصاصات الحديثة، بارعون في حفظ المعارف والعلوم كافة، ومتفوقون في معارفهم، ولكنهم، يا للعار، صرفوا رصيدهم المعرفي، لصالح رأسمال الطائفة، ليصيروا عملة في محفظة السيد الزعيم وحاشيته، السياسية والمالية والعقارية، لقاء حفنة من المواقع المحكومة بالطاعة والالتحاق… هؤلاء “مثقفون” بلا ثقافة، كهنة المعبد من أجل ثلاثين من الفضة…

الآخرون، استقلوا بذواتهم، يدافعون عن حقوق الآخرين قبل حقوقهم، يتبرعون بالوقوف الصارم، الى جانب قضايا الناس، اليتامى سياسياً، بهدف رفع الظلم وتأييد الحق، إذا استطاعوا الى ذلك سبيلا.

نحن في لبنان، أعتدنا ان لا نحيا. تضيق الأنفاس وتنعدم الخيارات. يصير الماضي أندلساً. القديم العفن أفضل من الجديد المزغول. نترحم على ما كنا عليه من سوء، لأننا في الأسوأ. يأسر اللبناني نفسه سياسياً في معسكرات بلا قضايا. يقتنع اللبناني “الأصيل” طائفياً، بأن “هذا هو لبنان”. تباً لهذه القناعة. يعيش دائماً في المأزق. يعرف أن الصيغة مأزق، النظام مأزق، السلطة مأزق، المؤسسات مأزق، الإصلاح والتغيير مستحيلان، ويستسلم لهذا الأسر، لا ينتفض، إلا اذا مسه طائفي من غير دينه ومذهبه. يعوض عن قصوره وتبعيته بإلقاء اللوم على الخصوم من طوائف أخرى. بلغ به الإستسلام حد اعتبار الفساد ديناً طائفياً لا بد منه، وهو الدين الرسمي للبنانيين، من دونه، تجوع الطوائف وتفلس الزعامات وتتورط في العنف.

أي معنى لهذه الحياة بهذا المستوى الدنيء.

نحن في لبنان. أما كان ممكناً غير ذلك؟ يبدو أن قرنا من البراهين والنجاحات الطائفية، يؤكد أن لبنان نجح في أن يكون هذا. لا هو دولة ولا هو وطن ولا هو شعب. وكل ذلك ليس غريباً.

لبنانيو الطوائف يستحقون هذه العقوبة.

ما هي خيارات اللاطائفيين، المؤمنين بأن لبنان ليس لطوائفه بل لمواطنيه؟

الجواب مؤجل، وبحاجة الى قول آخر، قريباً.

 

Exit mobile version