لكأنما كُتب على الشعب الفلسطيني أن يخوض حرباً مفتوحة لتأكيد وجوده وحقه في أرضه.. وهو شرف عظيم لم تنله غالبية شعوب الأرض التي لم تجد من ينازعها حقوقها في أوطانها، ولم يفرض عليها الخيار البائس الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على شعب هذه الأرض المقدسة والتي تعيش في وجدان الإنسان لأي دين انتمى… مع التمييز دائماً بين اليهودي المؤمن بدينه والمشروع الاستعماري بـ «منح» فلسطين للحركة الصهيونية لتقيم فوقها ـ وعلى حساب أهلها الذين كانوا دائماً أهلها ـ دولتها العنصرية، إسرائيل، بقوة التآمر الدولي الذي جهز وسلح وموّن العصابات الصهيونية لتحقق «حلمها» الاستيطاني الاستعماري.
طوال مئة عام، أي منذ إطلاق وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور «وعده» الذي أعطى من لا يملك من لا يستحق، وشعب فلسطين يقاوم قوىً دولية عاتية تصرفت بحقوقه فقررت أن تمنحها لمجموعات من البشر كانوا يعيشون في «بلادهم» في مختلف أنحاء أوروبا والأميركيتين، بل وفي العديد من البلاد العربية، كمواطنين كاملي الحقوق كسائر «إخوانهم» و «جيرانهم».. فلا تمييز، ولا عنصرية، ولا اضطهاد ولا أفران غاز!
جيلاً بعد جيل قاتل شعب فلسطين ضد المؤامرات لسلبه وطنه، بداية بإغراءات متمولين يهود مشفوعة بضغوط قوات الاحتلال البريطانية… ولقد انتفض مرات عديدة وواجه العصابات الصهيونية، والتآمر البريطاني ـ بل الدولي ـ والتخلي العربي.
إنها ملحمة مفتوحة فرض على هذا الشعب العربي في فلسطين أن يخوضها وحيداً أعزل إلا من تأييد أشقائه في البلاد العربية من حوله، والذين لم يكونوا يملكون بدورهم القرار لا في شؤون «الدول» التي رسم حدودها الأجنبي وحاصر كلاً منهم في كيانه المستحدث والمقتطع من جغرافيته الطبيعية ومن تاريخه، وفرض عليه أن يعيش في مرارة من تم تزوير هويته ونزع أرضه منه، بل نزعه بالقوة من أرضه التي سقاها بدموع عينيه وأحياناً بدمائه..
ولطالما جرت محاولات لمخادعة شعب فلسطين، حتى جاءت لحظة الحقيقة مع نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، وبينهم بريطانيا صاحبة «الوعد» بدولة يهود العالم الذين أحسنوا استثمار «المحرقة» التي ارتكبتها جماعات نازية عنصرية في ألمانيا، والتي أثارت عطف الدول التي حاولت أن تكفر عن بعض خطايا هتلر بارتكاب خطيئة جماعية تمثلت في نقل وعد بلفور إلى الأرض الفلسطينية لتقام فوقها دولة لليهود على حساب شعب فلسطين الذي كان دائماً شعبها على مر الدهور.
هل ذلك حديث في الماضي وعنه؟
ولكن ذلك الماضي ما زال يتمدد على الحاضر فارضاً على شعب فلسطين أن يعيش بعضه في «القهر» تحت الاحتلال الإسرائيلي في الداخل، والباقي مهجراً في ديار اللجوء العربي التي كثيراً ما تركها مهاجراً إلى المنافي البعيدة وقد حمل وطنه في وجدانه، لا هو يريد أن ينسى أو يستطيع أن ينسى في قلب قسوة الغربة وافتقاد الأرض وأهلها ـ أهله، والإحساس المر بالظلم الإجرامي الذي تواطأت على ارتكابه الدول الكبرى فتسابقت على الاعتراف بالكيان الصهيوني لحظة استيلاده بالقوة، وعلى حساب شعب فلسطين صاحب الأرض عبر التاريخ… بغير أن ننسى للحظة التواطؤ أو الغفلة العربية أو الاستهانة بالمشروع الاستيطاني المعزز بكل هذا التأييد الدولي…
وبين مظاهر تمدد الماضي على الحاضر واقع الفلسطينيين الذين تم توزيعهم على الكيانات العربية القائمة، وكانت جميعها هشة، لا سيما في المشرق العربي، وأخطرها الكيان الأردني الذي أنشئ ـ أصلاً ـ باقتطاعه من أرض سوريا وأعطي كجائزة ترضية للأمير عبد الله ابن الشريف حسين، والذي حوّله توالي فصول النكبة إلى مملكة بعد «منح» الإمارة بعض فلسطين لتغدو الإمارة مملكة، ولتسهيل عملية ابتلاع ما تبقى من فلسطين في الكيان الإسرائيلي.
وعبر الحروب الإسرائيلية المتوالية (1948، 1956 ـ ضمن العدوان الثلاثي على مصر ثم 1967 وأخيراً 1973 ـ وهي الوحيدة التي كان قرار المباشرة بها عربياً ثم أنهاها تخلي السادات لتحويل النصر المحتمل إلى هزيمة) ثم تكريس وجود الكيان الإسرائيلي كأقوى دولة في المنطقة التي كان اسمها الوطن العربي فغيرتها قوة الأمر الواقع إلى «منطقة الشرق الأوسط»، أي إلى مجرد جهة جغرافية لا هوية لها ولا تاريخ لأهلها يعطيهم ويعطيها هويتها العربية..
عبر هذا الدهر من الهزائم والانتكاسات وأنماط التخلي عن الواجب القومي كان الكيان الإسرائيلي يتعاظم قوة، فينتج (أو يُمنح) القنبلة الذرية، وتتدفق على ترسانته العسكرية أحدث الأسلحة الأميركية ـ البريطانية ـ الفرنسية وأشدها فتكاً بحيث بات أقوى من الدول العربية مجتمعة، بل بات يعامل نفسه وتعامله الدول الأخرى على أنه قوة عظمى..
بفضل ذلك التاريخ من الصفقات والمؤامرات الدولية والعجز العربي (بل التآمر أحياناً)، وجدت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مبرراً للرضا بسلطة لا سلطة لها على بعض البعض من الأرض التي لم يغادرها الاحتلال الإسرائيلي، بل ظل بقواته الأسطورية فيها جميعاً، طيرانه فوقها وبحريته تجوب البحر الأبيض المتوسط مطمئنة إلى «السلام المفروض بقوة السلاح».
لكن التاريخ لم ينته مع الهزيمة التي ضربت النضال الوطني الفلسطيني فحرمته الإسناد العربي البديهي، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً… وهذا الحرمان مستمر مع «السلطة» التي أقيمت في ظل الاحتلال كجائزة ترضية لا تحقق الحد الأدنى من حق الشعب الفلسطيني في أرضه ولا تصرفه عن مواصلة النضال.
… وها هي الأجيال الفلسطينية الجديدة تتجاوز اتفاق الإذعان الذي فرض على منظمة التحرير وارتضته قيادتها لعجز عن مواصلة النضال.
لقد نزل فتية فلسطين وصباياها إلى الشارع ليكتبوا الفصل الجديد من النضال الوطني الفلسطيني، بدمائهم.
لم يجدوا من السلاح إلا سكاكين المطبخ وبعض الآلات الحادة، وفي حالات نادرة بعض المسدسات.. فحملوها ونزلوا إلى الشوارع يواجهون قوات الاحتلال المدججة بالسلاح، والمعززة بالمخبرين من ضعاف النفوس و»المتعاونين» معها ـ خونة أرضهم وشعبهم.
وها هم صامدون، يواصلون جهادهم بأقل السلاح الذي ملكته إيمانهم، ويهاجمون طوابير قوات الاحتلال، أو يتصيّدون جنود الدوريات في الشوارع والساحات والطرق الداخلية لقراهم..
إن الجيل الجديد يبدأ من حيث فرض الانصراف على جيل آبائه بخديعة السلطة التي لا تملك من أمرها شيئاً، والتي كثيراً ما تفتقد في خزينتها ما يكفي لدفع رواتب موظفيها، فيدور رئيسها و»الوزراء» على الدول العربية يطالب بما تقرر لهم من وجوه الدعم العربي، في مؤتمرات القمة المتعاقبة، والتي بات بعض الدول العربية يتهرّب من دفعها.
إن رفض الاحتلال يعلن عن نفسه يومياً بالعمليات الفدائية التي ينفذها يومياً فتيان يافعون وصبايا في عمر الورود ضد جنود الاحتلال الإسرائيليين، مستعيدين سيرة آبائهم وأجدادهم من المجاهدين الذين بذلوا دماءهم رخيصة في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي المعزز بالدعم الدولي المفتوح، وإن كان العنوان الأميركي هو الغالب.
إن جذوة الثورة لما تنطفئ… وها هي أطياف الشهداء تستنفر أبناءهم وربما أحفادهم ليؤكدوا جدارتهم بفلسطين عبر ما تيسّر من سلاح، ولو كان بدائياً، فالإرادة هي السلاح الأقوى والأعظم فاعلية في وجه قوات الاحتلال المدججة بالسلاح والتي يرعبها هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم كما بأرضهم فزادهم هدى… فالأرض مقدسة كما كتب الله التي تحض على الجهاد وعلى تحريرها بما ملكت أيديهم.
ومن ضروب البطولة التي يمارسها هؤلاء الفتية أنهم ينزلون إلى الميدان في حين تتزاحم بعض الدول العربية على طلب الصلح مع العدو الإسرائيلي وبشروطه، متناسية شعب فلسطين وحقه في أرضه..
وإنه لمما يُخجل أن تندفع بعض الدول العربية، وبالذات الأغنى منها، إلى تجريد حملات عسكرية تدمّر مواطن التاريخ في الأرض العربية، كاليمن مثلاً، ثم تعرض أن توفد قوات مرتزقة تجمعها من أربع جهات الكون بذريعة «الجهاد» ضد النظام السوري، وتنسى واجبها أو ما كان واجبها القومي في نجدة فلسطين وحق شعبها فيها.
إن هؤلاء الفتية الذين يكملون ما بدأه آباؤهم وأجدادهم من جهاد في سبيل تحرير الأرض المقدسة، لن يمدّوا أيديهم إلى الذين يهربون من مواجهة العدو، موجّهين طيرانهم الحربي وجيوشهم التي تتكوّن من مرتزقة أو مسترهنين برزقهم في بعض بلاد النفط، ليدك المدن حاضنة التاريخ والحضارة في اليمن، أو في سوريا، كما تشهد بعض التصريحات الملكية الأخرى.
وشعب فلسطين هو الأقوى بإرادته، كما بأرضه التي لم ولن يغادرها، حياً يناضل من أجل تحريرها أو شهيداً ينام في أحضانها توكيداً لحقه فيها وحضاً لرفاقه أن يواصلوا هذا الجهاد الذي يقارب الآن قرناً من البذل والعطاء من أجل الأرض المقدسة التي تستحق أغلى التضحيات ليس فقط لأنها أرض الأنبياء بل لأنها تنجب المجاهدين بلا توقف، وتردف الجيل الأول بجيل ثانٍ ثم ثالث ورابع من الشهداء الذين يؤكدون أن فلسطين لأهلها وليس لمن جاءوها أشتاتاً من الأغراب ثم ادعوا أنها دولة يهود العالم، وكأنها أرض بلا شعب.
ولسوف تنتصر فلسطين، بدماء أبنائها ونصرة إخوانها في الدول العربية التي يحتل العدو الإسرائيلي إرادتها ويسخّرها لخدمة احتلاله.