طلال سلمان

مستر “كان”

كانت أياما ثقيلة في بكين تلك التي قضيناها، زوجتي وأنا، في الفندق، وبخاصة عندما احتاجت زوجتي إلى رعاية طبية. لم يكن قد مر على وجودنا في العاصمة الصينية إلا أسابيع قضيناها في ظروف قاسية عندما أبلغتني السكرتيرة بالسفارة أن قرارا صدر في وزارة الخارجية الصينية بتخصيص شقة لنا في المجمع الدبلوماسي وعدم الالتزام بدورنا في قائمة انتظار مطولة، وتكليف محل كبير في وسط العاصمة بتوفير الأثاث اللازم لهذه الشقة، وتعيين طباخ متميز ومساعدة بيت مدربة. انتقلنا وسط ذهول الزملاء في السفارة الذين توقعوا لنا إقامة ممتدة في الفندق أسوة بعشرات الدبلوماسيين فضلا عن مصاعب شتى عندما نشرع في البحث عن طباخ ومساعدة منزل مناسبين.
***
كانت المفاجأة سارة لزوجة غير مكتملة الصحة أن تقابل الطباخ المكلف بالعمل في منزلها. لم يختلف الرجل في الطبيعة عن الصورة النمطية لطباخ صيني في العقد السابع من عمره، حليق الرأس تماما نظيف المظهر، أنيق في بذلته الزرقاء التي يرتدي مثلها رئيس الوزراء وغيره من كبار القوم. لم يمد يده للتحية أثناء التعارف كعادة الآسيويين عموما. أذكره يقول، بلغة إنجليزية معدودة المفردات ولكن كافية لعلاقة عمل بين طباخ متمرس وربة بيت، ما معناه أنه مكلف بوضع أفضل خبراته في خدمة هذه العائلة الصغيرة، وهو بالفعل ما فعله.
***
قضينا مع هذا الطباخ حوالي العام. أستطيع بغير مبالغة القول إنه منذ اليوم الأول لخدمته خلف لدي انطباعات عديدة ليس أقلها أهمية الانطباع في الذاكرة بأن للمطبخ الصيني ثقافة لا يضاهيها مطبخ آخر. أعترف أن هذا الرجل وحده فرض علينا احترام المطبخ واحترام حرفة الطبخ. رأيته يتعامل مع مكونات الطبخة وأواني الطبخ وأدواته كمعلم وسط تلاميذه أو قائد وسط جنوده، كل منهم في أبهى حلة وكأنه يوم عيد.
***
كنت أستيقظ مبكرا، بعد الفجر بقليل، لأفتح له باب الشقة. أراه يتحرك بنشاط ابن الثلاثين. يبدأ يومه بتسخين الفرن” الصيني” وإعداد الدقيق والزبد والماء المغلي لوازم خبز الفطائر الضرورية لصحة “سيدة الدار”، الراقدة في الفراش حسب نصيحة الأطباء. قرر بنفسه أن يطبخ لها كل يوم وجبة صينية لم يكرر واحدة منها على امتداد قرابة الشهرين. بالتأكيد كان لهذا الرجل الفضل وراء سرعة شفائها وفي الوقت نفسه إثارة عاطفتها النسوية تجاه مطبخ لم تدخله من قبل وهواية لم تتح لها ممارستها ودور لم تلعبه  قبل زواجها.
***
أذكر لهما مناقشات مهدت لتصبح زوجتي رائدة في هذا الفن. أذكر زياراتها التي لم تنقطع لمطابخ سفارات وبيوت عقب تناول طعام أعده بامتياز طباخ أو طباخة. كان الطباخ الأشهر الذي عمل بسفارتنا في روما ينتظر زيارتها في مطبخه لتستخدم حقها المشروع بحكم علاقات الثقة والخبرة المتبادلة بينهما في نقد بناء للوليمة ككل؛ وعلى وجه التحديد لنوع معين كان يجربه لأول مرة. أسمعها تسأله عن نوع الزبد أو الزيت المستخدم، وتسأله عن موقع البائع أو البائعة في السوق التي اشترى منها الخضرة واللحم، وتسأله عن مدة ودرجة حرارة الفرن الذي عهد إليه طهي الطاجين المغربي أو التيراميسو الإيطالي أو شيخ المحشي السوري.
***
لم يتردد المستر “كان” في أن يطلب من زوجتي استخدام التسهيلات الممنوحة لنا لاستيراد احتياجاتنا من ضرورات المطبخ. أحيانا كنا نتلقى منه وريقات مسجل عليها باللغة الصينية أنواع بهارات ومنتجات زراعية مجففة أو مخزنة،  بدونها ، كما ادعى وصدقناه، تفقد الطبخة نكهتها المميزة والتي اشتهرت بفضلها على سواها من الأكلات الصينية المرموقة.
كانت هونج كونج ملجأنا الأسرع والأكفأ لتلبية طلبات المستر “كان”، وصرنا نتلقى الترحيب والإشادة من ضيوفنا الصينيين بجودة ما نقدمه على مائدتنا من الأطباق الصينية، ولكل طبق تاريخ نشأة وانتشار في مقاطعة صينية بعينها كأن تتميز بطقس مختلف وموقع مختلف. بعد وقت غير طويل صارت زوجتي تلميذته النجيبة والمبدعة ثم على مر العقود صارت تطبخ بنفسها وتتلقى الإشادة من ضيوفنا من كل الأجناس التي عشنها بينها أو عاشت معنا، ومنهم أو قل في صدارتهم الزملاء والزميلات في الأهرام وغيرها من الصحف القاهرية وقيادات الدبلوماسية المصرية والأجنبية المعتمدة في مصر. ومع كل إشادة وفي كل بلد كان عليها أن تحكي حكايتها مع الطباخ الصيني صاحب الفضل.
***
شاء حظها، وحظ أسرتها الصغيرة، أن ننقل إلى سفارتنا في روما وقد سبقتنا في الوصول سمعتنا كهواة طبخ. إذ حدث في اليوم التالي لوصولنا أن زارنا في الفندق طباخ السفارة يهنئنا بسلامة الوصول. بدا لي أن السمعة التي سبقتنا كانت وراءها السيدة حرم السفير إذ نقلت إلى طباخ السفارة أن سيدة في العشرين من عمرها سوف تصل إلى روما قادمة من بكين حيث تلقت تدريبها  لمدة عام على يد أحد أعظم طهاة الصين. أذكر أنه، الطباخ المصري لم يتردد وهو يقدم نفسه لنا في الفندق، حيث كنا نقيم، كطاه تاريخي، لن يتكرر.
أذكره في مآدب السفارة وقد ارتدي أفخر ما عنده من ملابس طباخين يخرج من مطبخه وينزل من الطابق الأول حيث يقيم السفير إلى الصالة الكبرى في “فيلا سافويا” ليتلقى التهاني على ما صنعت يداه من أطباق إيطالية دوخت رؤوس المدعوين وأغلبهم من مشاهير الفن والإعلام. تسأله النساء عن سر مطبخه فيضحك ضحكة الساحر الذي يسأله جمهور المتفرجين عن كيف حقق المعجزة التي ابتدعها أمامهم. يصفقون ويهللون ثم يتوسلون، ولا من مجيب.
***
تقول ابنتي إنها عاشت تحاول أن تحصل من أمها على تفاصيل ما دخل في صنع طبق بعينه، مصريا كان أم إيطاليا أم لبنانيا أم هنديا أم  مغربيا، حاز على إعجاب ضيوف بيتنا. دائما ما جاءت استجابة أمها في شكل نظرة حنون وابتسامة ساخرة واعتذار مناسب “أخشى إن أنا أطلعتكم على أسرار مطبخي تستغنوا عنا فلا تزورون ولا تتوسلون ولا تعودوا تنبهرون”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
Exit mobile version