فجأة، ومن دون مقدمات تفسر استذكار الموضوع الفلسطيني في هذه اللحظة السياسية الفاصلة بين عهدين أميركيين، بكل التطورات اللاحقة، عادت “القضية” إلى الواجهة، مجردة من قدسيتها، وكمسألة سياسية خاضعة للمزايدة والمناقصة، فلسطينياً وعربياً ودولياً.
من دون مقدمات، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيستقبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، خلال الأيام القليلة المقبلة..
ومن دون مقدمات، أعلنت منظمة “حماس” في غزة عن انفصالها تنظيمياً عن الأخوان المسلمين، الذين كانوا في أساس قيامها وهي سيطرت على السلطة في غزة بشعاراتها، وكانت قيادتها تتبع تنظيمياً لحركة الأخوان.. وعلاقاتها مع التنظيم عضوية، وباسمه حكمت غزة و”استقلت بها عن “السلطة” في رام الله”.
الطريف أن هذا الإعلان قد صدر من قطر، التي تعتبر حالياً الحاضنة العربية لحركة الأخوان، في حين تشكل تركيا أردوغان الحاضنة الدولية.
وكان منطقياً أن يتم الربط بين هذه التطورات، وبين مسار العلاقات الحميمة بين الرئيس الأميركي الجديد وحكومة العدو الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو وشركائه في القيادة الحالية من أهل اليمين المتطرف في الكيان الإسرائيلي.
ثم بين هذا كله وبين مشروع زيارة الرئيس الأميركي ترامب إلى الكيان الصهيوني وما تردد عن احتمال أن تشمل هذه الزيارة مدينة القدس الشريف كخطوة حاسمة على طريق الاعتراف بها كـ”عاصمة أبدية” للكيان الصهيوني..
ومفهوم أن مجمل هذه التطورات لا يمكن فصلها عن مقررات القمة العربية الأخيرة في عمان، والتي أعادت إحياء المبادرة السعودية التي تبنتها قمة بيروت العربية في العام 2002، مع شيء من التعديلات التي فرضها تطور العلاقات الدبلوماسية والسرية بين حكومة العدو الإسرائيلي وعدد من الحكومات العربية، لا سيما في أقطار الجزيرة العربية والخليج (الأمير تركي الفيصل ولقاءاته وتصريحاته العلنية، العلاقات المتنامية مع دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، فضلاً عن قطر..)
في هذه الأثناء يستمر اضراب الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية للأسبوع الثالث على التوالي، وسط تعنت سلطات الاحتلال رفضها النظر في مطالب هؤلاء المعتقلين، وغالباً بلا محاكمة… في حين تواصلت حركة التضامن خارج المعتقلات معهم وقررت نخب من الشعب الفلسطيني أن تشارك رمزياً في دعم المضربين بأن تتوقف عن الطعام والشراب مكتفية بزجاجات من الماء والملح..
كذلك فقد انطلقت في مختلف أنحاء الضفة الغربية مسيرات تضامن ومساندة للمعتقلين المضربين عن الطعام والشراب في سجونهم، ومن المنتظر أن تتوسع هذه الحركة وأن تترك آثارها على التحركات السياسية، وبشكل خاص على الزيارة العتيدة لمحمود عباس إلى واشنطن.
عباس في البيت الأبيض
من المؤكد أن محمود عباس ينتظر اللقاء مع الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب على أحر من الجمر. إن صورة المصافحة في المكتب البيضاوي “انجاز تاريخي”.
ولكن ماذا يمكن أن يطلب عباس؟
وماذا يمكن أن يعطي ترامب لهذا الضيف الطارئ عليه، والآتي من خارج جدول اللقاءات الروتينية للرئيس الأميركي.
إن أي تحليل منطقي للمواقف والتطورات على الصعيد الأميركي في عهد الرئيس الجديد، غريب الأطوار، ينتهي إلى أن أهم ما يمكن أن ينتج عن هذه الزيارة هي الصورة التقليدية للرئيس الأميركي وهو يرحب بضيفه في المكتب البيضاوي.
فالولايات المتحدة الأميركية دولة عظمى، لا يقرر سياستها مزاج هذا الرئيس أو ذاك.. علماً بأن صلاحيات الرئيس محددة ومحدودة، وأي تصرف له أو قول من خارج هذه الحدود لا قيمة له عملياً.. فالقرار للمؤسسات في الإدارة، وفيها المخابرات بداية (وهي أجهزة شتى) والخارجية، وهناك الكونغرس بمجلسيه، حيث يتم النقاش وتحضير مناخ القرار..
ليس الرئيس الأميركي حاكماً مطلقاً فيقرر فيطاع.. ثم لماذا سيكون ترامب المضارب في البورصة والذي نشأ وترعرع في أوساط يسيطر عليها اللوبي الصهيوني وبيوت المال اليهودية، والذي شكل اليهود الصوت المرجح له في الانتخابات الرئاسية الأميركية..
لماذا سيكون هذا الرئيس الجاهل في التاريخ وفي السياسة الدولية متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه الوطنية، و”حاضنته” السياسية صهيونية أساساً، ومصالحه المالية مرتبطة باللوبي اليهودي.. ثم أن السياسة الأميركية لا يقررها شخص بمعزل عن عواطفه وآرائه. وإلا لكان باراك أوباما أجدر باتخاذ قرار جريء، من ترامب الجاهل بالتاريخ والمدين للنفوذ الصهيوني في أميركا ببعض الفضل في ترجيحه على منافسته هيلاري كلينتون.
بالمقابل، ماذا لدى الرئيس ـ الأسير محمود عباس ليقدمه من موقعه القيادي فلسطينياً للرئيس الأميركي ـ الذي لا بد يعرف أو يجد من يعرفه ـ إلى ما تعانيه حركة فتح من انقسامات وخلافات شلت قرار السلطة، التي لم تعد تجد المال الكافي لدفع رواتب موظفيها العسكريين والمدنيين.. والتي تعاني من عجز عن القرار، نتيجة الخلافات داخل السلطة، قبل الحديث عن “السلطة المنافسة” في غزة، والتي أكملت مؤخراً “الانفصال” عن السلطة المركزية في رام الله…
ثم أن الانتخابات المقرر اجراؤها لاختيار مجلس وطني جديد تنبثق عنه “حكومة جديدة” ترجأ كل ما حان موعدها مما يجعل “السلطة” مطعوناً في “شرعيتها”، ولو نظرياً..
فإذا ما افترضنا، جدلاً، أن الرئيس الأميركي متعاطف مع الشعب الفلسطيني أكثر من تعاطفه مع إسرائيل، وهذا محال، فما يملك ترامب ليعطيه لمحمود عباس غير الصورة في المكتب البيضاوي.. هذا إذا لم نقل أنه سيأخذ من هذا الضيف الفلسطيني الضعيف والآتي بطلب النجدة أكثر بكثير مما سيعطيه له.. مع الصورة التاريخية، التي لا تثمن ولا تغني من جوع، وإن نفعت في المباهاة بأنه لا يقل شأناً عن الملوك والرؤساء وأولياء العهود والأمراء العرب الذين زاروا الرئيس الأميركي فصافحهم وحادثهم والتقطت له معهم الصور التذكارية في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
وهل من المنطق أن يطالب الرئيس الأميركي، كائناً من كان، بأن يكون متعاطفاً مع قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه، ودولة له فيها، ولو على بعضها، أكثر من الملوك والرؤساء العرب الذين لم يجرأوا في قمتهم الأخيرة على تبني مقررات قممهم السابقة، بل أنهم تحايلوا على تعديلها وتخفيف نصوصها بحيث “لا تستفز” الإسرائيليين، واستطراداً الرئيس الأميركي صاحب حق الامرة على الدولة الإسرائيلية، حكومة وشعباً..
وهذه زيارات الرؤساء والملوك والأمراء العرب الذين سبقوا إلى الحج إلى البيت الأبيض شاهدة ناطقة..
ينشر هذا المقال مع جريدة الشروق