غزة ـ حلمي موسى
في اليوم السابع والأربعين بعد المئة، وبرغم استمرار المجازر وكل ما يقترفه العدو من جرائم، إلا أننا لا نتخلى عن الأمل، وإيماننا بحقنا لا يتزعزع، فنصر شعبنا محتوم بانكسار العدوان وزوال الاحتلال.
***
جاءت “مجزرة الرشيد” التي ارتكبتها قوات الاحتلال أمس ضد جموع الطامحين لكسر الجوع بانتظار قوافل المساعدات لتكون المشهد الموثّق الأكثر وضوحا عن استهداف جيش العدو لمدنيين عزّل بلا أي مبرّر سوى الرغبة في القتل، والمزيد من القتل، بالسبل كلّها.
واختلطت دماء أكثر من مئة شهيد، وألف مصاب، من المجوّعين قسرا، بالطحين الذي تناثر فوق شارع الرشيد، الملاصق لبحر شمالي غزّة.
وأكّدت مصادر طبية محلية عدّة أن الحالات التي وصلت إلى المستشفيات كانت مصابة بطلقات في الرأس وبالقسم العلوي من الجسد.
ومع ذلك، أمعن العدو في استخفافه في ما حدث، معولا على إفلاته من المحاسبة والعقاب منذ 75 عاما، متنصلا من مسؤوليته وملقيا باللوم على الضحايا وهمجيتهم.
فلقد ادّعت إسرائيل أن لا أساس لوقوع مجزرة، وأن “الفلسطينيين قتلوا نتيجة تدافعهم”. ونشر الجيش الإسرائيلي خلاصات لتحقيق أولي أجراه زعم أنه “نتيجة لنيران قواتنا، أصيب عدد قليل من سكان غزة، أقل من عشرة. هؤلاء هم سكان غزة الذين اقتربوا مسافة عشرات الأمتار من دبابة تابعة للجيش الإسرائيلي”.
وأضف الجيش أنّه “قد تم تنفيذ إجراء منظم بحقهم- أولاً، إطلاق طلقة تحذيرية في الهواء، ومن ثم إطلاق النار على الجزء السفلي من الجسم. ولم تقع إصابات في صفوف قواتنا في الحادث”.
وتبين في “تحقيق” جيش العدو الأولي أن الغالبية العظمى من ضحايا الحادثة “أصيبوا نتيجة سحقهم ودهسهم بالشاحنات، إذ قام آلاف المدنيين بنهب الشاحنات وتخريبها، وقد توجهت الشاحنات”.
وادعى جيش العدو أيضًا أنه “في أعقاب التجمع العنيف لسكان غزة، وحادث دهس الشاحنة وسرقتها، اقترب جزء من الحشد من قوة الجيش الإسرائيلي التي كان دورها هو السماح بنقل الشاحنات كجزء من عملية إنسانية لنقل المساعدات. وقد اقترب الحشد بطريقة عرضت قواتنا للخطر، فردت بإطلاق النار. والحادث قيد التحقيق.”
وفي مساعيه لإبعاد التهمة عن عناصره، نشر الجيش صورا جوية منسقة بعناية، لا تُظهر كيف داست الدبابات على أجساد شهداء الطحين، وتُركز فقط على حشودهم وتدافعهم بعد إطلاق النار عليهم. ي
إلا أن هناك فيديوهات فلسطينية تُظهر الدبابات وهي تطلق النار على الحشود، قبل أن تهرع بسرعة نحوهم وتدوسهم.
وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن ما حدث يبرهن على ضرورة عمل المؤسسات الإنسانية في شمالي غزّة، ولا سيما “الأونروا” التي شيطنتها إسرائيل وباتت ترفض التعامل معها، مع أنها الهيئة الأكبر القادرة على تسهيل وصول المساعدات إلى مستحقيها في قطاع غزة.
وعلى الرغم من توالي الإدانات الدولية لـ “مجزرة الطحين”، وكان أبرزها موقف الرئيس الكولومبي الذي أعلن أن “قتل إسرائيل لأكثر من 100 فلسطيني أثناء طلبهم للطعام يسمى إبادة جماعية ويذكرنا بالهولكوست”، إلا أن الولايات المتحدة التي أعلنت في البداية عبر وزارة الخارجية أن اللقطات الجوية التي نشرها الجيش الإسرائيلي “تشهد أن الوضع في غزة بائس بشكل لا يصدق وأن الناس احتشدوا حول الشاحنات لأنهم جوعى”، عادت لاحقا واعتبرت أن هناك “روايتين متناقضتين لما حدث، مما يتطلب إجراء تحقيق مفصل في الأمر!
وفي مؤشر آخر على الموقف الأميركي، منعت واشنطن صدور أي بيان عن جلسة لمجلس الأمن عقدت أمس بناء على طلب الجزائر، لمناقشة “مجزرة الصحين”.
وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، أمس الخميس، ردا على أسئلة الصحافيين، “نحن ننظر في الأمر الآن. هناك روايتان متناقضتان لما حدث. وما زلت لا أملك إجابة”.
وفي وقت سابق أمس، كان مسؤول أميركي كبير قد ذكر أنه “طلبنا توضيحات بشأن الحادث الذي وقع في غزة، ولم تصلنا أي معلومات جديدة بخلاف ما ورد في التصريحات الرسمية”.
ومع ذلك، قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الامريكي لموقع “والا” إن الحادث الذي أحاط بشاحنات المساعدات في القطاع “يؤكد ضرورة التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، ما يسمح بزيادة كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى غزة ونحن نواصل العمل ليلا ونهارا لتحقيق ذلك”.
أضاف “هذا حادث خطير ونحن ندرس التقارير حول هذا الموضوع. إننا نحزن على الضحايا وندرك أن هناك وضعا إنسانيا خطيرا في غزة ما يعني أن الفلسطينيين الأبرياء يبحثون فقط عن سبل للحصول على الغذاء لعائلاتهم”.
إلى ذلك، تباينت المواقف من تأثير “مجزرة الطحين” على سير مباحثات التبادل، فقد اعتبر بايدن أن “ما وقع في غزة ربما يؤدي إلى تعقيد المفاوضات من أجل إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار”، موضحا إنه يتراجع عن إعلانه بشأن تحقيق وقف إطلاق النار بحلول يوم الاثنين المقبل قائلا “أنا أتحدث مع القادة في المنطقة. ربما سيستغرق الأمر وقتا أطول قليلا”.
في المقابل، تعتبر بعض الجهات أنه، وبالرغم من التعقيدات التي أثارتها المجزرة، إلا أنها يمكن أن تشكل شرارة لخطوة تسريعية تقود إلى هدنة وتبادل للأسرى على الأقل وفق متطلبات المرحلة الأولى من مقترح “باريس 2″، وأن توفر أساسا لمزيد من الضغط على إسرائيل لوقف النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة وشماليها.
وكان الوفد الإسرائيلي إلى المحادثات قد غادر قطر أمس كما كان مخططا، من دون ورود إجابات من “حماس” حول القضايا الأساسية في الخطوط العريضة الجديدة التي تم التوصل إليها في باريس.
وفي حال عدم تلقيه إجابات جوهرية خلال عطلة نهاية الأسبوع، سوف يعود الوفد إلى الدوحة، على الرغم من الأنباء التي أكّدت أن حماس ستقدّم ردها للوسطاء الأسبوع المقبل.
وكالعادة، زارد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو الأمر تعقيدا في مؤتمره الصحافي أمس، معلنا أن إسرائيل لن “تنحني أمام مطالب حماس الوهمية”، معتبرا أنه “لا يبدو أن حماس تحاول الاقتراب من اتفاق على الإطلاق”.
على صعيد آخر، أعلنت “كتائب القسام” أنها سوف تنشر اليوم معلومات جديدة عن مصير ثلاثة من الأسرى الإسرائيليين كانت قد أعلنت قبل شهرين ونصف أنها فقدت الاتصال بمحتجزيهم.
ومن المتوقع أن يتم الإعلام عن مقتلهم أو مقتل بعضهم، أو عن إعادة الاتصال بمحتجزيهم. وكانت إسرائيل قد أعلنت أنه وفق ما يتوفر لديها من معلومات استخبارية، ليس هناك ما يشير إلى أي تغيير في وضعهم.
ومن المرجح أن يشكل ما ستعلنه “كتائب القسام” اليوم ضغطا إضافيا على أهالي المختطفين الذين سيزيدون، بدورهم، من الضغط على حكومتهم.