طلال سلمان

متى يشن ترامب هجمته المضادة؟

أتصور أن الرئيس دونالد ترامب صار يشعر بالخناق المفروض عليه يشتد إحكاما. أتصور أنه أدرك أن خصومه عادوا ينظمون الصفوف ويستعدون لتوجيه ضربتهم الحاسمة. الكل يعرف أن نظام الرئيس ترامب مهدد بالسقوط وحزبه مهدد بفقد أغلبيته البرلمانية إذا الرئيس نفسه تقاعس أو أظهر ضعفا أو انحشر وأعوانه في مواقع الدفاع. رأيناه مناورا قادرا وعرفناه صاحب مشروع، وبناء على ما رأينا وعرفنا نستطيع أن نتصور أنه يستعد الآن لشن هجمة استباقية تنشر الارتباك في صفوف خصومه وتزيد أو تثير الشكوك في صدقية ونزاهة مؤسسات في الدولة والمجتمع ناصبته العداء لأكثر من عام. ترامب يبدو لي أنه يستعد ليستعيد زمام المبادرة.

***

عام وأكثر والرئيس ترامب مشتبك في معركة حياة سياسية أو موت على جبهات عديدة. الأشد قسوة وفاعلية، ربما كانت الجبهة التي استخدم فيها الطرفان جميع أنواع الأسلحة التقليدية والأحدث تكنولوجيا المتوافرة في ترسانتيهما، إنها الجبهة الإعلامية. لا أبالغ، وأنا مدرك جيدا حقيقة أن كل الأطراف تبالغ هذه الأيام، لا أبالغ حين أسجل أنني على امتداد تجاربي المتشعبة في مهن متعددة لم أمر بفترة عشت فيها شاهدا على حرب إعلامية، خارجية أو داخلية، اتسمت بالقسوة والتفنن والتنوع التي اتسمت بها فترة العام وأكثر قليلا التي عشتها شاهدا على الحرب الدائرة بين معسكر الرئيس ترامب من ناحية والمعسكرات الليبرالية والإصلاحية والديموقراطية من ناحية أخرى. أسجل أيضا أن ترامب، رغم شراسة المعسكر الآخر لا يزال واقفا على قدميه صامدا، بل ومتحديا وساعيا لمزيد من النزالات. تلقى، ويتلقى، ضربات موجعة يصدها ويردها بضربات أوجع.
عرف مثلا كيف يلتف حول الإعلام التقليدي باستخدام أسلوب يصعب مجاراته بالأساليب التقليدية. بتغريداته هو الأسبق زمنيا، بمعنى آخر هو الحائز بفضلها على ميزات السبق والمبادرة. وبقدراته الهائلة على الكذب وتزييف الوقائع أو صنع وقائع خائلة وعدم إنكاره أولوية مصالحه ومصالح عائلته الخاصة على مضمون شعار «أمريكا أولا»، بهذه القدرات استطاع أن يحتفظ لنفسه بنفس أطول نسبيا من نفس أقوى القنوات التليفزيونية تأثيرا وأوسع الصحف الكبرى انتشارا.

يسجل له أيضا أنه استمر في الوقت نفسه مشتبكا مع قطاعات مهمة في النخبة البيروقراطية وأهمها جهاز التحقيقات الفيدرالي والذي تتوقف مصير حكومة ترامب على علاقته المضطربة به. وكالة التحقيقات نموذج مهم ولكنه ليس النموذج الأوحد للطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، ولا يخفى أن ترامب جاء بمشروع أهم بنوده غير المعلنة القضاء على رموز هذه الطبقة وكسر احتكارها مسؤولية إدارة الدولة الأمريكية. نذكر أن الرئيس بدأ ولايته بحملة رئاسية شنها ضد أجهزة الاستخبارات جميع، انتصر في أجزاء منها كما مع وكالة الاستخبارات المركزية التي كافأها بتعيين رئيسها وزيرا للخارجية. كذلك ضمن حملته ضد قلاع البيروقراطية هجوما لاذعا وشجاعا على مواقع عديدة في قطاع القضاء انتصر في بعضها واستمر يهاجم البعض المتبقي. إن نسينا بعض معاركه العديدة فصعب أن ننسى تطور علاقته بزعامات الحزب الجمهوري. تجاهلهم في حملته الانتخابية وخلال معظم شهور عامه الأول حتى احتاجوا له في العام الثاني فأخضعهم لقيادته رئيسا للحزب لا ينافسه أحد من العتاولة.

***

لم يتجاوز محللون الحقيقة عندما وصفوا دونالد ترامب بالرئيس تحت الحصار. الرجل محاصر من جهات متعددة. تحاصره كوكبة من النساء يتهمنه بالتحرش وبما هو أبشع من التحرش. هو متهم بخيانة جميع زوجاته وبينهن ميلانيا آخرهن وأقلهن رغبة أو مصلحة في إثارة المشاكل له، ربما لأنها لا تريد أن تحرم ابنها من الحصول على مثل ما حصل عليه أخوه من نصيب في جاه الأب وثرواته إن هي أثارت غضب الأب المحاصر من عديد النساء.

تحاصره أيضا وعوده التي قطعها على نفسه أثناء الحملة الانتخابية. يحاصره زمر من العمال من ذوي البشرة البيضاء يرفضون تطوير أنفسهم تكنولوجيا بعد أن فقدت مصانعهم القديمة سبب وجودها في بيئة عولمة سريعة التغير أو التقدم. ويحاصره متدينون متصلبون في طائفة ينتشر أعضاؤها في قلب الدولة ومجتمعاتها الريفية والهامشية. هؤلاء يحركهم المستر بينس نائب الرئيس وحاكم ولاية أنديانا السابق ومن أشد القادة السياسيين تطرفا، وبخاصة في المسألة الفلسطينية الاسرائيلية. لا أحد ينكر أن الرئيس ترامب واقع تحت ضغط هائل لإنهاء مرحلة أساسية في الصراع الفلسطيني والاسرائيلي وضغط مقابل من جهات في البيروقراطية الأمريكية، عسكرية ومدنية، تنصح بالتروي. وفي الغالب لن يتروى. يحاصره تيار صاعد وواعد يقوده قوميون متطرفون، هم في الحقيقة وراء شعار أمريكا أولا وسياسات العداء لحرية التجارة والإنفاق على تحالفات ومسؤوليات دولية لا تخدم بالضرورة أو فورا مصالح أمريكية.. هذا التيار يقوى ولا يضعف كما يتوهم البعض. ففي أوروبا ستيف بانون كبير مستشاري الرئيس سابقا يعمل ليل نهار، تساعده الاتصالات «السيبرانية» ومنشأها روسيا أو غيرها، من أجل «تشبيك» الحركات القومية الأوروبية بعضها بالبعض الآخر وإلحاقها جميعا بالحركة القومية الصاعدة في أمريكا. بانون من الخارج وجون بولتون ولورنس كودلو في الداخل وجيش من أكفأ الاعلاميين في قناة فوكس نيوز الواسعة المشاهدة.

***

أتصور أن دونالد ترامب مقتنع بأنه ضحية مؤامرة كبرى. يدفعني لإعلان هذا الاعتقاد حقيقة أن المؤامرة صارت منهاج حكم تعتنقه أنظمة حكم من هذا النوع ويتبادل قادتها ومفكروها المعلومات التي تعزز اقتناعهم بوجودها. يتوهمون أن كل الضغوط التي يتعرضون لها هي من صنع متآمرين وليست نتيجة اختيارات سياسية خاطئة أو أسباب هيكليه في تركيبة الدولة والمجتمع. يقول «هانيتي» أحد كبار الإعلاميين المقتنعين بالرئيس ترامب والمشكلين لبعض فكره وملهم تغريداته: «إن الاعلام الأمريكي المعارض طرف أساسي في المؤامرة التي تستهدف الرئيس ترامب وحكومته. هناك وفي أجواء الحديث المتكرر عن المؤامرة، وحيث الرئيس ونظامه واقعان تحت الحصار تتردد كثيرا عبارة «الدولة العميقة التي تعارض السلطة الحاكمة وتحاول إسقاطها».

***

مؤشرات غير قليلة العدد والأهمية لفتت النظر إلى ما يمكن أن يكون بدايات في سلسلة إجراءات تصعيدية لحماية حكم الرئيس ترامب والقوى السياسية والاقتصادية المدافعة عنه. هناك على سبيل المثال ما اتخذه ترامب مؤخرا من عمليات «تطهير» في البيت الأبيض تخلص بفضلها من عشرات من الموظفين المشكوك في ولائهم المطلق، ومن موظفين سربوا أو يمكن أن يسربوا خفايا من البيت الأبيض. هناك ثانيا طرده ثلاثة من أهم مساعديه وهم وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ووزير الاقتصاد، الثلاثة بشكل أو بآخر عارضوا بعض أهم سياساته وأسلوب عمله، والثلاثة لا يستطيع الرئيس أن يغامر بوجودهم في لحظة اتخاذ موقف حاسم من خصومه. هناك ثالثا التسريب المتعمد من مواقع متعددة في البيت الأبيض والكونجرس عن خطة ينفذها الرئيس لتشتيت «المجموعة العسكرية» التي عاشت معه في البيت الأبيض، وكان غرضها فيما يبدو حماية الدولة والمؤسسة العسكرية من قرارات رعناء يصدرها رئيس عديم الخبرة تماما بقضايا الأمن والحرب والسلم.
فاجأهم بقراره استعداده الاجتماع برئيس كوريا الشمالية وكانوا يأملون في منعه من المساس بالاتفاق النووي الذي عقده المجتمع الدولي مع إيران، ومنعه من التمادي في التدخل في الشؤون الإدارية للقوات المسلحة، وها هو يعلن نيته سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا. رابعا، ومن المؤشرات أيضا، المهمة التي يقوم بها مستشاره السابق ستيف بانون في القارة الأوروبية بهدف حشد وتعبئة القوى القومية المتطرفة وحثها على الانتقال إلى مرحلة جديدة في التنظيم والعمل السياسي ودعم النظام القائم في الولايات المتحدة. خامسا، استدعاء جون بولتون من فضاء الإعلام المتطرف إلى العمل السياسي المباشر، رغم كل ما يحيط بالرجل من غضب وأحيانا كره. هو الرجل الذي كذب في الأمم المتحدة ليبرر غزو أمريكا للعراق. لافت للنظر أن ترامب لم يتوقف عن مطالبته العراق، رغم الدمار الذي تعرض له، دفع تعويضات لأمريكا عما تكلفته في هذه الحرب. سادسا، إطلاق حملة منظمة تستهدف سمعة مؤسسات بيروقراطية تصدت له منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية، وعلى رأسها مؤسسات الأمن القومي ووكالة التحقيقات الفيدرالية، توقعا من جانبه لنجاح هذه المؤسسات جمع أدلة تدينه على مستويات عدة.

المؤشرات كثيرة على أن الرئيس ترامب يستعد لتوجيه ضربة لخصومه يعطل بها ما يتصوره مؤامرة حيكت بإتقان لإسقاطه، وبعد إسقاطه إسقاط أمريكا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version