طلال سلمان

مبروك: لقد ألغيتم الدولة والشعب!

تعامل الطبقة السياسية «رعاياها» باحتقار مستفز!
فهم، في نظرها، ليسوا شعباً واحداً، والكيان ليس «دولة»، والنظام ليس ديموقراطياً ولن يكون حتى لو حمل تسمية «الجمهورية».
ممنوع على «اللبناني» أن يكون «مواطناً»، وعليه أن ينضبط في حظيرة طائفته أو مذهبه، تقوده وترعاه القيادة الفذة التي بوسعها أن تمنح وتمنع وتحيي وتميت، فهي مرجعيته اليوم وكل يوم، إن خرج عليها تم توقيع الحُرم عليه، وترك لمصيره فعاش منبوذاً في خيمة الطموح المستحيل إلى «وطن».
ولطالما قاد ملوك الطوائف الذين يتصدرون الطبقة السياسية رعاياهم إلى حروب ضد الذات، فاصطدمت الرعية بالرعية تحت راية كرامة الطائفة وحقوقها… ثم ومن دون سابق إنذار يفاجئون رعاياهم بالنداء الثوري القائل بإلغاء الطائفية السياسية، بينما الرعايا مستنفرون ـ طائفياً ومذهبياً ـ إلى حد الاستعداد للانخراط في حرب أهلية جديدة!

التقدم إلى الخلف… هذه هي القاعدة!
مرات ومرات قاد ملوك الطوائف «رعاياهم» إلى المذابح والاقتتال باسم حقوق الطائفة وموقعها السياسي، أو تحت شعار حماية حقوق الطائفة حتى لا تنقض عليها فتتناتشها الطوائف الأخرى، وها هم اليوم يشهرون سيوفهم لنحر «ما ناضلوا من أجله» على امتداد دهور: لقد وصلوا إلى دوحة الزعامة واحتلوا الصدارة فيها بذريعة أنهم الممثلون الشرعيون لطوائفهم وجباة حقوقها، فلما استقروا فوق، طلبوا من جمهورهم أن يعود إلى الشارع للمطالبة بإلغائها… من أجل قيامة الوطن وجمهوريته تحت ظلال الديموقراطية!
بين الحين والآخر، لا بد من تبادل الأدوار: من كان يناقص ينتقل إلى المزايدة فيرفع شعار العلمنة الكلية والشاملة للأنساب والأعراق والعناصر والألوان، مفسحاً في المجال أمام خصمه ـ شريكه لكي يؤكد أن أي تعديل في النظام الطوائفي سيواجهه بالسلاح قبل أن يلغيه!
هنا بالضبط تشتد الحاجة إلى الأرقام بذريعة حفظ التوازن!
من أعوزته أعداد الرعية في الداخل يلجأ إلى المغتربات يغرف منها من تحفظ سجلات السلطنة العثمانية أنه كان من رعاياها حين هاجر، ولما لم يكن «الكيان» قد استولد بعد، «متصرفية» ثم «دولة لبنان الكبير»، ثم «الجمهورية»، فقد التبس أمرهويته، برغم أنه قد اكتسب جنسية البلاد التي استقر فيها فأنشأ عائلة سرعان ما تفرعت إلى عائلات يحمل أفرادها جنسية مساقط رؤوسهم ولا يعرفون عن بلاد الأرز إلا بعض صور الراحلين من الأجداد وبعض ذكريات الأهل الذين يحلمون بعودة مستحيلة.
من كان يزايد في المناداة بحقوق الطوائف وتقسيم المناصب بما يتناسب مع أعداد الرعايا، يرى ـ ببساطة ـ أن هؤلاء الرعايا يمكن تلخيصهم بواحد أحد ومعه بعض الأعوان..
ومن كان يناقص ليحمي احتكاره السلطة متذرعاً بالكفاءات وأهل العلوم العصرية، اكتشف أن هذه الذرائع لم تعد تفيد في تغطية الغرض، فانتقل إلى ادعاء الحصرية في تمثيل نقطة التوازن الداخلي ومركز الاستقطاب الخارجي..
وهكذا تلاقت السيوف على اللاجئين الفلسطينيين، وتزاحم المزايدون مع المناقصين على المطالبة بإخراجهم من لبنان إلى أي مكان (والصحراء العربية واسعة..) لحفظ النوع اللبناني الفريد في صفائه العرقي!
لقد تكرر استدعاء «الذئب» حتى باتت الحكاية ممجوجة لا تستثير أحداً، في حين أن حقيقة الأمر غير هذا كله:
إنها مبارزة بين ملوك الطوائف، من يقتنص أكثر من الآخرين من المواقع المؤثرة في الإدارة، بحيث تستبقى الطائفة رهينته في مصالحها وأسباب عيشها،
ويفرض سؤال ساذج نفسه هنا: من يدخل «الإدارة» بطائفيته، مجردة من الكفاءة والخبرة، كيف تراه سيعترف بحقوق أبناء الطوائف الأخرى؟! بل كيف يمكنه أن يقنع نفسه بأنه موظف في «دولة» وليس محظوظاً برضا الزعيم الطائفي الذي فرضه فرضاً في منصبه، وبغض النظر عن موقعه بين المتقدمين إليها بكفاءاتهم؟!
وإذا كانت الديموقراطية ستبنى بانتخابات على قاعدة قانون الستين الذي يلغي المواطن ليتعامل معه كرعية لطائفته، فكيف لا ينتهي الصراع بين الطوائفيين إلى حرب أهلية لا تكاد تخمدها المطافئ العربية والدولية حتى تشعلها الأغراض والمصالح والصراعات العربية والدولية من جديد؟!
إن هذه الطبقة السياسية لا تنتج إلا الحروب الأهلية، فهي هي الوالدة والداية والمولود، والحروب الأهلية مصدر نفوذها بل وحياتها، ولذلك يمنع على اللبنانيين أن يعيشوا فترة من الهدوء لإعادة صياغة حياتهم، سياسياً وإدارياً، ثقافياً واجتماعياً، اقتصادياً وعلمياً، بما يتناسب مع قدراتهم وحقهم في مستقبل أفضل.
وبديهي والحالة هذه أن تهرب الأجيال الجديدة من السياسة بما هي الطريق الطائفي السريع إلى الحرب الأهلية.
وها نحن نقرأ ونسمع ونرى بالعين المجردة الكثير من التشوهات التي تتعرض لها أجيالنا الجديدة: إن الأبناء ينشأون في مناخ الخيبة والخوف والقهر والإحساس بالإذلال… وربما لهذا نشكو إلى بعضنا البعض همومنا المشتركة التي يمكن تلخيصها بأن أبناءنا أقل ارتباطاً بالوطن، بالأرض، بالقضية، وأقل اعتداداً بالانتماء والتشرف بالهوية… ثم ننصرف إلى رواية ما يوجعنا من أخبار هجرة الأبناء، شرعية أو غير شرعية، واندفاعهم إلى تعاطي المخدرات، وسلبيتهم تجاه ما يحدث في بلادهم لأنهم يرون أنه لا يعنيهم… فهم لا يشعرون أن البلاد بلادهم، ولا يطمئنون إلى مستقبلهم فيها، ثم أنهم يرفضون أن يكونوا عبيداً أو رقيقاً في بلاط ملوك الطوائف!
مبروك للطبقة السياسية: لقد نجحت في إلغاء الشعب بعد نجاحها في إلغاء الدولة.

نشر هذا المقال في جريدة “السفيرر” بتاريخ 25 كانون الثاني 2010

Exit mobile version