منذ عهد بعيد فقدت السياسة العربية المرجعية والبوصلة المحددة للاتجاه.
وما وقع في اجتماع لجنة المتابعة العربية يوم الجمعة الماضي، وما سوف يقع في واشنطن خلال الأسبوع الجاري، مجرد أدلة حسية جديدة على ان العمل العربي المشترك بات هدفاً عزيز المنال… فإذا ما وقعت »معجزة« كما في قمة بيروت وتم التوافق على »مبادرة« ما، فإن أي اعتراض أو حتى تجاهل أميركي قد يُسقطها ويدفع أصحابها الى تناسي شركائهم من »اخوانهم« العرب فيها والتصرف بما يؤكد الولاء، بمعزل عمّا تكون قد وفرته »المبادرة« من فرص ذهبية لسفاح مثل أرييل شارون لتدمير ما تبقى من البنية الاجتماعية الاقتصادية للشعب الفلسطيني وإعادة احتلال ما كان أخلاه من المدن والقرى على امتداد الضفة الغربية.
وهكذا فإن ثلاثة من وزراء الخارجية العرب قد تناسوا، في لقاء بالقاهرة، رئاسة لبنان الدورية، وقرروا الخروج على لجنة المتابعة والانطلاق منفردين الى نيويورك للقاء مع »رباعي مدريد« أو »اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط« التي تضم إلى الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، من دون أن يكونوا مفوضين، ومن دون أن يكونوا مدعوين، ومن دون أن يكون لديهم فعلاً ما يعرضونه، أو قادرين على رفض أو قبول ما قد يعرض…
ثم ان هذا الثلاثي العربي قد طلب لقاء »رئيس الكون« فوافق جورج بوش على لقائهم (ودائماً خارج إطار لجنة المتابعة لقمة بيروت والمبادرة التي جاءت إلى السعودية ثم منها فصيّرتها القمة عربية)، علماً بأن الرئيس الأميركي قد حدد موقفه بوضوح قاطع، قبل فترة وجيزة، وبعد لقاءات مطولة مع ملوك هذا الوفد الوزاري، امتدت أياماً ما بين المنتجعات الرئاسية والمزارع الشخصية لإضفاء جو حميم على »حوار الأصدقاء برغم اختلاف الرأي«!
ومن تجاهل كلام الملوك وأهمل مبادراتهم لن يتوقف مطولاً أمام رجاء الوزراء أو استعطافهم… فلا هم سيكونون أفصح من »ملوكهم«، ولا جورج بوش سيكون أكرم معهم مما كان شارون مع »قمتهم« وعرضها السلام بلا شروط!
في هذا الوقت يتابع ياسر عرفات إلحاحه على الإدارة الأميركية لتسمع منه ما أنجز من إصلاح ومن ضرب للفساد ورموزه الأمنية والمالية والسياسية، فترفض الحديث معه أو الرد عليه إلا بعد إنجاز التطهير الشامل بخلع نفسه، ديموقراطياً، وتصم أذنيها عن سماع دفاعه عن نفسه ودحض الاتهام بأنه قد »سرق المال العام« أو أنه سهّل لزوجته مثل هذه السرقة، فيلجأ إلى الفضائيات العربية لكي يعلن مرافعته الدفاعية.
وفي هذا الوقت بالذات فإن النظام المصري الذي لم ييأس بعد من شارون، يواصل حواره معه حول الإصلاح المطلوب في السلطة الفلسطينية، تارة بإيفاد مسؤوليه الأمنيين الكبار للقاءات في ظروف مهينة (سياسياً ووطنياً) مع الحكومة الإسرائيلية ومع القيادة الفلسطينية المطلوب خلعها، وطوراً باستقبال مسؤولين إسرائيليين كبار لكنهم ليسوا أصحاب القرار، كرئيس الكنيست الذي يصل القاهرة اليوم بينما وزير الدفاع في طريقه الى الإسكندرية للقاء الرئيس مبارك.
وفي هذا الوقت بالذات فإن واحداً من أبرز أركان النظام الأردني حسباً ونسباً ونفوذاً تاريخياً يظهر، بعد غياب طويل، على مسرح الإعداد للضربة الأميركية ضد العراق، عبر اللقاء المنظم في لندن للضباط العراقيين السابقين، الذين تحاول المخابرات المركزية الأميركية الإفادة من معلوماتهم ومن رتبهم وطوائفهم وانتماءاتهم الجهوية… وبهذا تصبح عودة »الملكية الهاشمية« الى العراق بين العروض المطروحة، كاحتمال للتلاقي بين المختلفين على جلد الدب قبل صيده..
بالمقابل، فقبل فترة وجيزة، وخلال رحلة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية السوري فاروق الشرع الى نيويورك، حيث كانت بلاده تتولى رئاسة مجلس الأمن الدولي، منعت الإدارة الأميركية وزير خارجيتها كولن باول من التوجه إلى نيويورك للقاء المسؤول السوري، الذي لم يكن مستعداً لزيارة واشنطن بغير موعد محدد مع الرئيس جورج بوش.
والاتهام الجاهز لتعطيل الحوار الأميركي السوري هو »الإرهاب« ومنظماته التي تمتد لتشمل »حزب الله« في لبنان… أما حقيقته فتتصل باستفراد الأطراف العربية التي ما تزال تصر على مبدأ »التسوية الشاملة«، على قاعدة مؤتمر مدريد وقرارات الأمم المتحدة، وهنا تتلاقى سوريا ولبنان مع الفلسطينيين الذين تواصل الدبابات الإسرائيلية محاولة سحق انتفاضتهم وفرض سكون الموت عليهم في انتظار أن يقرر شارون في أمرهم ما يراه.
أليس من حسن الفطن، والحالة هذه، أن يفترض اللبنانيون والسوريون وأهل الانتفاضة في فلسطين، أن لقاءات الوفد الوزاري الثلاثي مع »رباعي مدريد« في نيويورك ثم مع الرئيس الأميركي جورج بوش لن تكون لخيرهم، وهي تسهم بغض النظر عن النوايا في إظهار افتراق عنهم وعن مطالبهم المشروعة، وربما على حساب هذه المطالب؟!
وماذا لدى بوش من جديد و»رؤيته« قد أسقطت المبادرة السعودية (المعرّبة) من كل حساب، وحولت الدولة الفلسطينية من مشروع قريب المنال إلى حلم بعيد، قد يغدو على يدي أرييل شارون، كابوساً دموياً ثقيلاً قد يمتد ليلتهم جيلاً جديداً من الفلسطينيين؟!
أما »رباعي مدريد« فمهمته المعلنة أقرب لأن تكون »اللجنة الفاحصة« التي تقرر نجاح عرفات أو فشله في تحقيق شروط شارون »الإصلاحية« لفلسطين أرضاً وشعباً، قبل »السلطة« وبعدها… فماذا لدى الوزراء يقدمونه، أو ماذا لدى الرباعي (في لقائه الأول) يعطيه لهؤلاء الخارجين على لجنة المتابعة، والآتين من خارج المبادرة العربية؟!
على أن هذا كله لا يعدل حرفاً في سياق ما يجري في بيروت..
فحرب الحكم على نفسه مستمرة عبر انقسامه على ذاته أرضياً وفضائياً، سياسياً واقتصادياً، تربوياً وسياحياً (حتى لا ننسى الطلاب المعلقة نتائج امتحاناتهم السنوية لأن الأساتذة لا يصححون، حتى يقبضوا والسنيورة استنفد مال الضرائب في دفع خدمة الدين، فلا يملك ما يدفعه!! وحتى لا ننسى أيضاً ضحايا القرارات الارتجالية، من مالكي »الفانات« بمحركات تعمل بالمازوت، الذين سمح لهم باستيراد هذه السيارات بقرار من مجلس الوزراء قبل ثماني سنوات، ثم اكتشف فجأة أن المازوت يضر بالبيئة وبالصحة العامة فتقرر منعهم، بمعزل عما سينجم عنه من أضرار بمصالح (وأرزاق) آلاف المواطنين…).
كذلك فإن بعض أهل الحكم في بيروت لا يتورعون عن تفخيخ »جسر« العلاقة بين الدولة والمقاومة، لعلهم في واشنطن يسمعون فيعرفون ويحفظون الجميل، بافتراض أن زمن المقاومة قد مضى وانقضى، وقد يكون مفيداً بيع رصيدها في »سوق الدين«، انسجاماً مع منطق الخصخصة الرائج، فإذا تم البيع أمطرات السماء مليارات..
لكن الأمر مختلف في بيروت عنه في القاهرة…
والخروج على لجنة المتابعة والرئاسة اللبنانية للقمة العربية قد يكون سهلاً، لكن أمر المقاومة مع الدولة في لبنان ليس بهذه البساطة، و»الجسر المفخخ« ليس الطريق الأقصر لتغيير المعادلة، فضلاً عن أنه ليس طريقاً لتوحيد الحكم (والشعب) بأي حال!