فجأة، ومن غير مقدمات تبرر “ترقية” المستر جاريد كوشنر من مرتبة صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى مرتبة نائب الرئيس + وزير خارجية الولايات المتحدة الاميركية، ورجل المهمات الخاصة التي لا يُكلف بها الرئيس غيره، متجاوزاً وزير الخارجية، بل الوزارة جميعاً وأجهزة المخابرات الخارجية وما يماثلها.
ولقد أولى ترامب صهره العزيز كوشنر مهمة “ترتيب العلاقات” مع عرب النفط خاصة في الجزيرة والخليج، فكان رفيقه مع زوجته الجميلة و”حماته” في رحلاته إلى السعودية، تحديداً، و”جابي” العطاءات والشرهات وسائر الهدايا التي تقدمها المملكة المذهبة لضيوفها الكبار..
على أن أخطر المهمات وأدقها تظل الترويج لـ”صفقة القرن” التي كان ترامب قد بشر بها باعتبارها الحل السحري المفقود للصراع العربي الاسرائيلي بعنوان القضية الفلسطينية.. بعد حملة دعائية واسعة تولاها ترامب شخصياً عبر تصريحات وتغريدات كما في بعض لقاءاته مع “الكبار” من ضيوفه العرب.
لم يعرف العالم، بمن في ذلك العرب، والفلسطينيون منهم على وجه الخصوص، عن الصفقة المريبة الا عنوانها.. وكان التصرف جارحاً لكرامة العرب عموماً وللفلسطينيين خصوصاً الذين يرون في فلسطين ارضاً مقدسة لأمتهم جميعاً، بمن فيهم من كان فيها من اليهود قبل “وعد بلفور” 1917 واتفاق سايكس ـ بيكو 1918… والأول تكرم به وزير خارجية بريطانيا العظمى، آنذاك، بمنح ارض فلسطين ليهود العالم لتكون دولتهم.. في حين أن يهود فلسطين كانوا يعيشون فيها مع أهلهم العرب المسلمين والمسيحيين كأي شعب تتعدد هويات ابنائه الدينية.
ولقد اتخذ ذلك “الوعد” الذي كان بطله وزير خارجية بريطانيا العظمى آنذاك، اللورد بلفور، نموذجاً لمن يعطي وهو لا يملك لمن لا يستحق… ثم اتخذ هذا الوعد “سنداً” بملكية فلسطين ليهود العالم اجمع، شرقاً وغرباً..
وبين 1920 (سايكس ـ بيكو) و1948 نظمت حملات دولية لترحيل اليهود من حيث كانوا يعيشون بأمان، في انحاء اوروبا والاميركيتين، وحتى داخل البلاد العربية إلى فلسطين بوصفها “الوطن القومي ليهود العالم” تحقيقا لنبوءة المفكر الصهيوني هرتزل وافادة من تواطؤ الاحتلال البريطاني لفلسطين والكيانات العربية في المشرق العربي خاصة، وقد تقاسمتها بريطانيا وفرنسا.
وهكذا تم تحويل “متصرفية جبل لبنان” إلى كيان ثم دولة تحت الانتداب الفرنسي.. علماً أن الغرب كان قد اقتطعها من السلطنة العمثانية بذريعة الاقتتال بين الدروز والمسحيين.. تاركاً الاقضية الاربعة (أي جنوب لبنان وشماله والبقاع وبيروت) ولايات تابعة للسلطنة..
كذلك اخترع الغرب البريطاني امارة شرقي الاردن، بعد اقتطاع ارضها من سوريا التي سوف تخضع مع لبنان (الجديد) للانتداب… فنصّب عليها احد ابناء الشريف حسين (الهاشمي) “مطلق الرصاصة الاولى” في الحرب ضد السلطنة العثمانية، بينما نصّبت بريطانيا فيصل الاول، الابن الثاني للشريف حسين، على عرش العراق..
هكذا صار عرب المشرق اشتاتا، خصوصاً وان مصر الملكية، آنذاك، كانت خاضعة (مع السودان) للاستعمار البريطاني..
بهذا بات المسرح معداً لإقامة دولة اسرائيل بقوة الدعم العسكري المفتوح، على ارض فلسطين، خصوصاً وان الانتداب البريطاني عليها قد أغمض عينيه عن قوافل المستوطنين الذين جيء بهم من مختلف ارجاء الأرض..
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كان اليهود الذين صدروا الى فلسطين يتجاوزون المليون نسمة مجهزين بأحدث الاسلحة، وبمجندين سبق تدريبهم إما خلال الحرب او بعدها مباشرة… وهكذا امكنهم هزيمة شعب فلسطين وتلك الكتائب القليلة وسيئة التجهيز التي بعثت بها بعض الدول العربية، مصر اساسا، ومعها سوريا، اضافة إلى المتطوعين الذين لبوا نداء الجهاد من اجل فلسطين، ولم تكن لديها القدرة على مواجهة عصابات الهاغانا وشتيرن التي انتظمت في جيش قوي وحديث يملك فائضاً من الطائرات الحربية والدبابات وخبرات قتالية ( مستوردة) ممتازة..
نعود إلى اساس الموضوع : صفقة القرن.
ما يبدو جلياً أن مشكلة “الصهر” تتجاوز لبنان وجبران باسيل لتضرب المستر كوشنر صهر الرئيس الاميركي المغرد ليلاً ونهاراً بكل ما يخطر على باله من أخبار وحكايات وتخريفات ليصبح بها العالم: دونالد ترامب.
..وعلى طريقة “عمه” او بالفصحى “حميه” ترامب فقد باغت كوشنر العالمي بترجمة افكار ترامب وتمنياته هو ومعه كل الصهاينة في العالم، داخل الكيان الاسرائيلي وخارجه على شكل مشروع امبريالي لتعزيز اسرائيل وتعظيمها، مساحات وقدرات، ليس فقط على حساب اهلها الفلسطينيين فحسب، بل على حساب سوريا ( الجولان) والاردن (الأغوار) ولبنان (تلال شبعا وكفرشوبا) الخ..
ولقد اختار كوشنر منبراً “عربيا” لإطلاق مبادرته، وهكذا أمرت واشنطن البحرين فلبى اميرها الذي صيّر نفسه ملكاً، بغير اعتراض من ملوك السعودية والاردن والمغرب، وهكذا فتح له ابواب المنامة ليطرح المشروع الجديد لتصفية القضية الفلسطينية بعد اسباغ صفات الجلالة والسمو عليها فاذا هي “صفقة القرن”.
والصفقة، بالمعنى الشائع، هي عملية بيع او شراء غير متكافئة بين صاحب الارض (الاعزل) والاحتلال المسلح حتى اسنانه.. والصفقة هنا، وفي ما يخص فلسطين، تتلخص بتصفية هذه القضية المقدسة واسقاط الهوية الفلسطينية عن شعبها واخراجها من امته، وتجنيسه برشوة الدول التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين حتى لا يبقى للقضية وشعبها هوية او ارض، ويتم تذويب الجميع بمحلول كوشنر، الذي يذوب القضايا المقدسة والارض واهلها.
قد يكون من الضروري أن يذكر المفكرون والمخططون الصهاينة والقادة العاملون لحسابهم، أن مشروعات استعمارية شبيهة بمشروع القرن قد طرحت على العرب بعنوان فلسطين ففشلت فبقي شعب فلسطين يناضل وبقي المخلصون من القادة المناضلين يقاتلون من اجل فلسطين، فضلاً عن قتال المتطوعين، فرادى او منتظمين في “جيش الانقاذ” في العام 1948.
وعشية تفجر مصر بثورة يوليو (تموز 1952) طرح الرئيس الاميركي ايزنهاور مشروعه الذي حمل اسمه والذي كان يهدف إلى تصفية القضية المقدسة.. وبعدها طرحت واشنطن بالشراكة مع لندن مشروع حلف بغداد ففشل هو الآخر، بل كان بين نتائجه تفجر العراق بثورة 14 تموز 1958، بعد شهور قليلة من قيام اول دولة للوحدة العربية بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر، كرد عملي على “زرع” اسرائيل بالقوة في الارض العربية، والعمل على مواجهتها.
وبرغم تهاوي دولة الوحدة لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، فان حركة الثورة، العربية قد حققت انجازاً تاريخيا بانتصار ثوار الجزائر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، في 20 ايلول 1962، وقامت جمهورية الجزائر الديمقراطية بعدما استعاد اهلها هويتهم العرب..
في الفترة ذاتها قام الجيش اليمني بخلع السلطان احمد ابن “الخليفة” يحي حميد الدين..
وتوالت الانتفاضات في لبنان (1958) وسوريا (الوحدة 1958) والعراق (1958) ثم في آذار 1963، وصولاً إلى 14 تموز 1969.
وفي اواخر الخمسينات وبداية الستينات تفجرت الارض الفلسطينية بالثورة وتحولت المنظمات والاحزاب السياسية إلى تنظيمات مسلحة (فتح، بقيادة ياسر عرفات) و”الجبهة الشعبية” المتحدرة من حركة القوميين العرب، بقيادة الدكتور جورج حبش.. قبل أن تنشق عنها “القيادة العامة” ـ احمد جبريل، و”الجبهة الديمقراطية” ـ نايف حواتمه الخ..
لن تهود فلسطين، ولن يتصهين الشعب العربي.
قد يخون الامانة بعض الملوك والرؤساء وامراء النفط هويتهم وقضيتهم المقدسة.. لكن فلسطين تبقى أكبر منهم ومن ترامب وصهره اليهودي بأكثر من اسرائيلية نتنياهو.
فلسطين أكبر وأقدس واجل من الحكام العرب جميعاً، ملوكاً ورؤساء وامراء بالنفط او بالتعيين من الخارج او بالخيانة المتوجة.. وستبقى ويذهبون..
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية