طلال سلمان

ما بعد سليماني: أتعلمون ماذا؟

كتب نصري الصايغ:

قاسم سليماني، قل لي إلى أين؟

سالك الطريق إلى فلسطين، يعرف معراجها. عندما عانيتها، سهلت علَّي المسالك. لم أتردد. قلت: إحمل سلاحك واتبعني. قبلي، ومنذ مئة عام، والطريق اليها مقفل. لكننا نصل إليها، طالما هي قبلتنا وطالما هي طريقنا إلى السماء. والسماء هنا، حرية مخفورة.

قلت: ولكنك جئت من بعيد. لا تعرف لغتها، لم تولد فيها أو بالقرب منها. لعلك فقط قرأت عنها، وعرفت جلجلتها، ولكنَك من بعيد أتيت.

قال: هل تعرفين ما فعلت فلسطين بي؟ علمتني القراءة ومعنى الظلم الذي ظلم بعده. حفظت انها كتابي ومساحة روحي. دلتني من أين يأتي الأمل. جعلت من ذاكرتي خزانة احزانها. عمدتني بترابها قطرة قطرة. قالت: لا تصدق هزيمتي. انا هنا إلى الأبد الزمني. فلسطين ارشدتني إلى قبضتي وحنجرتي وطريق إيابي. حملت جعبتي وسلاحي، ونشرتني في امكنتها المتعددة. حيثما كنت، كانت فلسطين تحضر معي. كل الجهات فلسطين، طافت بي حتى بلغت المستقبل. والمستقبل صنع ايدينا وفوهاتنا. أوصتني أن اقرع ابواب العواصم ففعلت. بحثت عن ابنائها وبناتها ورجالاتها، فوجدتهم يعاقرون مرارة الفراق وغصة الحنين إلى الوطن الأم. صارت فلسطين أمي وأمتي. وهي تمتد من القدس إلى بيروت والشام وارض الرافدين حتى عقر دار الاحتلال ومن معه وخلفه. اقنعتني فلسطين، انها أوسع من الجغرافيا وأن شمسها تشرق من كل الجهات، وأنها وشم كل صباح، وبسملة كل وقت. اكتشفت أن رجالاتها ونساءها وفتياتها وفتيانها ومن جاء من قبل ومن سيولد من بعد أن المسافة بين القدس والقلب على بعد ايمان، وأن لها من يشهد لها، وان سُلَّم الشهداء معروف وقد صعدته نخبة من الاجداد والآباء والاحفاد، جيلاً بعد جيل. وعلمتني فلسطين أن كل شيء عدا ها مؤقت. انها الباقية التي قيد انتظار قيامتها، وان لها من يفديها، وان الطريق إلى السماء، حتماً، يمر بها، ولا مكان لغير الوعد، وان الحياة من دون فلسطين مستحيلة. وان السلام، وهي اسيرة، مستحيل. لذا دأبت اوطان عربية معتلَّة من دون حريتها، اذ سهل أن تقبل بأغلال تكبلها. مفاتيحها بأيدي الاعداء، وهم من كل الجهات. انهم قراصنة العصر الحديثون.

ـ وهل انت وحدك؟

قبلي كثيرون وبعدي أكثر. سُلَّم الشهادة مكتظ بالأسماء والمواقع والدم. علمتني فلسطين أن لا مكان لغير الوعد. لذا، تواعدنا على الطريق اليها. فهي عاصمة القضايا. الحياة من دون فلسطين مستحيلة، والسلام وهي اسيرة، مستحيل. هي لا تشبه الا الجبهة العالية، فيما عواصم عربية معتلة من دون حريتها. تظن أن الاغلال، زينة الرجال.

الذين غضوا الطرف عن فلسطين، اصيبوا بالعمى. ما عادوا يرون الا ما يدر عليهم من عفن الطوائف ومرابع السلطة وفيء الكيانات الحائرة، بين صفقة خاسرة حتماً، وصفقة آسرة طبعاً. هذه أنظمة في الأسر، وتحب اغلالها، وتطرب لنذالة ترتكبها بكامل وعيها.

الذين أمّوا فلسطين، كانوا عراة أطهاراً الا من سلاح يشهرونه كلاماً ونصاً، وبلاغاً وأخمص وفوهة، تنطق كلها بأننا عائدون. ولقد ازددنا ايمانا، بعد ازمنة العقوق المديدة، أن الطريق إلى فلسطين، ترسم ليل نهار، بين البلاد والقدس وشقيقاتها، وان السالكين فيها سيصلون، لأنهم نسجوا من ارواحهم واجسادهم “جسر العودة”، “فقل لرفاقنا أن يعبروا”.

علمتني فلسطين قراءة الجرح: جرحك بطاقة عبورك وعودتك، وقالت لي ايضاً: تعالوا الي من قريب ومن بعيد. أنا آتٍ من بعيد. ولما أتيت سكنت في “سرايا القدس”. لأننا، بها وبأمثالها من المقاومة عائدون. حدث أن من تخلى عني، سقط بسرعة من تحت إلى أسفل، من النجاة البخسة إلى الصلح الظالم. هؤلاء، لا يجرأون على التشهد من اجل القدس. هؤلاء، فليسقطوا. ليسوا اول من باع ولن يكونوا آخر من خان. هؤلاء محسوبون على الاعداء. أماكن اقامتهم وحكمهم يحرسها الاعداء ايضاً، ويدافع عنها سماسرة الصفقات، وثقافة تقبيل الايدي التي تعجز عن كسرها…لا. هؤلاء خارج الحساب، ويسألونك عن فلسطين بسخرية الشماتة، يتجرأون على الاتهام: “وين بعدك”. ولكننا ما بدَّلنا تبديلا.

وتعلمت ايضاً: اياك والتشاؤم. الزمن الفلسطيني آتٍ، آتٍ، آت. لا تنظر إلى المغيب دائماً. الفجر يأتي كل يوم. سيكون رهن الاصبع عندما يصدح الرصاص. تمتع بالشروق، وآمن بالشعب، فلا أحد يرقى إلى مرتبة فوق الشعب. فها هي فلسطين محروسة من الداخل. انها تقول لا. ولاؤها سلاحها. اسراها اقوى من جلاديها. اطفالها عمالقة صغار، وأقوى من رجالاتها، ونساؤها يرضعن الاطفال مع وشم الشهادة. وغزة تقاوم كل يوم، وسلاحها رغيف خبز وحجر.

قل لي ماذا تعلمت من دروس المعارك؟

اقول: ما اعظمك يا لبنان. مقاومتك لقنت اسرائيل دروساً. كانت تخيف، فباتت تخاف، المقاومة صدقت وصنعت المعجزة. المقاومة أقوى من اسرائيل القوية جداً وبتفوق. المقاومة في لبنان، صارت قدوة، امتدت حتى التقت مع من جاءها من بعيد. والذين جاؤوها، كانوا شعوباً لا نخباً. من طهران إلى بغداد إلى الشام ومن كل حي جاؤوا. يتكؤون على صلاة جليلة: “حي على السلاح”.

قل لي ماذا فعلت بك فلسطين؟

هي الوحيدة التي بغيابها تعطي معنى للحضور. برغم شقاء الانسان الذي هزمته الانظمة، ها هي فلسطين محاطة بأسماء اضاءت سماها ولونت تربتها بالأحمر الحي. أسماء من باعوا كل شيء كي تعود فلسطين إلى اهلها. عماد مغنية واحد، وكثيرون قبله، وكثيرون بعده، وانا على شوق الفداء. وها آنذا ارتقيت في معراج الشهادة إلى فلسطين. وها بعد شهادتي، خط المواجهة يتسع من الأقاصي إلى الأقاصي ثم، إلى تخوم القدس. الجبهة مفتوحة على مصراعيها. الحليف الاميركي حائر. يهدد ويتلعثم. مجنون مصاب بمصاب القوة الفاشلة. اليوم، هناك من يجاهر بطرده، وسيطرد، وتشعر “اسرائيل” انها، على حافة بقائها. قلقة من خيال او ظل مقاوم يلوِّح في الجنوب… الهاربون من العرب عن فلسطين، خاسرون. انتعلوا حرب الديانات والمذاهب والتوحش، لكنهم باؤوا في حمأة الدم وموحلة السياسة. لا بقاء لهم في السلطة الا بثمن فادح. حماة الانظمة يطالبون حكوماتها بدفع ايجار سلطتهم. اذ، لولاهم، لسقطوا كورق الحور. لقد جاء خريفهم. أما نحن، فواقع الحال واضح: إننا قادمون، قادمون.

ماذا بعد يا قاسم سليماني؟ ماذا نقول لفلسطين؟

لا شيء. ستخبرنا هي عما سيأتي. انها ترى المقاومين في الساحات العربية المنتفضة والثائرة، مقاومة جرارة. اغلب الظن، انه “زمن الفتح المبين”. فسلام لمن اتبع الطريق، وسلام لمن صوَّب واصاب، وسلامي لكم يا اهل الارض المحررة.

ليست هذه اضغاث الاماني. هذه احلام قيد الانجاز. غيرنا يعيش كوابيس الخسائر.

أخيراً: ماذا تقول؟

قال: لا تضيعوا البوصلة. حذار الفتنة المذهبية. حيث تكون اميركا عاملوها كعدو. غداً، لا يشبه ما قبله. انه عصر جديد: عصر المقاومة الشاملة، فآمنوا بها. هذا اقل الايمان.

Exit mobile version