طلال سلمان

ماركس لم يمت بعد

قيل:

“إن رأس المال، يثير الصخب والخصام، وهو خجول بطبيعته، وهذا صحيح، ولكنه ليس الحقيقة كلها. إن رأس المال لا يطيق انعدام الربح، او الربح الهزيل. مثله، مثل الطبيعة التي كان يقال سابقا، إنها لا تطيق الفراغ… إن رأس المال ليصير شجاعاً جداً، بربح ملائم. فربح 10 في المئة يؤمن استخدامه في كل مكان، وربح 20 في المئة، يبعث الحمى فيه، وربح 50 في المئة يحقنه بجرأة مجنونة، وربح 100 في المئة يجعله على استعداد ليدوس بالأقدام القوانين البشرية، وربح 200 في المئة يجعله لا يتردد في ارتكاب أي جرم كان، وفي خوض أي خطر، ولو كان خطر تعرض صاحبه للإعدام شنقاً. وإذا كان الصخب والخصام (الحرب) يأتيان بربح، فلسوف يشجع كلاهما علناً”.

هذا هو عالمنا المعاصر: انه محكوم بتحالف رأس المال والسلطة، او، أكثر من ذلك، إنه الحاكم والسلطة خادمة لفحشه وغلوِّه. يتساوى الجميع في ذلك: في الدول الديموقراطية، في الدول الديكتاتورية، في الدول التيوقراطية، في الدول المتقدمة والمتخلفة، في الممالك والإمارات، وأخيراً في الدول الفقيرة والثرية… لا مفر من المعاناة، لا مهرب من السرقة، الفساد قانون يتلازم مع السلطة التي تخشى رأس المال، فتخدمه ولو أدى ذلك إلى مجاعة او إلى حروب.

الشواهد كثيرة في عالمنا المعاصر. عالم النيو ليبرالية واجتياحات العولمة، وتأليه السوق، وتكريس حرية التجارة، واعتبار الحدود بين الدول، عدواً للتقدم ولسيولة السلع، والتعامل مع الإنسان على انه مستهلك. من لا يستهلك لا يحق له البقاء.

تلك هي طبيعة رأس المال. لا حدود لفحشه. برغم تخمته، لا يشبع. هو أقوى من الله بكثير. ولقد قيل في الديانات: “لا تعبدوا ربين، الله والمال”، ولكنهم تفوقوا في عبادة المال. من الدلالات على شراهة الأموال، تلك المقايضة الجهنمية، على حقوق الانسان. دونالد ترامب فضَّل صفقات الاسلحة مع السعودية على الحقيقة. وقف مع الجريمة، بارتكاب جريمة أكبر. السلاح اولاً وما تبقى ثانياً… وأخيراً. السلاح للسعودية مقابل مليارات تضخ في شرايين الرأسمال الاميركي حيوية وشهية، ولو ادى ذلك إلى قتل مئات الآلاف في اليمن. لا قيمة للقتلى. انهم اصفار صغيرة ازاء المال… هكذا فعل ايمانويل ماكرون. ردَّ على المستشارة الالمانية التي اتخذت قراراً بعدم تسليح السعودية، بأن موقفها ديماغوجي… أيضاً وايضاَ، الكفة المالية الحربية، تربح على الخاشقجي.

قتله، حدث يُنسى. أما المال، فضخ في آلة تجميع المال، من الحروب وأثمان الدماء. وهكذا فعل بوتين. تهافت ليقف إلى جانب السعودية، في محنة جريمتها، وصدَّق كل اكاذيب المملكة، مقابل حصة من ثروة المليارات السعودية… وهكذا دواليك غربياً. أما في العالم العربي، فساد صمت مخيف، وتصرفت سلطاته، وكأن الحدث لم يقع، وكأن الجريمة خرافة. العرب، أمة تناثرت بين أقدام المليارات السعودية، وبين أرجل الانظمة الرأسمالية المعاصرة.

هذا هو رأس المال الحاكم. هو السلطة. هو السياسة. هو الاقتصاد. هو الإعلام. هو الاخلاق. هو… وهو كذلك المرتكب لجرائم الخصام. فمن يضع حداً لهذا التوحش الرأسمالي؟

وفي لبنان، فسق رأسمالي. هو على قارعة النهب المنظم والمرعي والمدعوم، سياسيا ودينياً واجتماعياً. ما يقارب المئة مليار، وما يزال السطو مزدهراً. كل يوم فضحية مالية. كل يوم جريمة ترتكب بحق الملك العام. يكاد البلد يغرق ويفلس، ومع ذلك، فان الرأسمال اللبناني، يستعد للقبض على الدولة برمتها، بصفته الوريث الشرعي لهذه الديون والأموال التي استعادتها الدولة منه، لتوزعه على الرؤساء والوزراء والنواب والمحاسيب، من زمان إلى اليوم والى ما بعد اليوم.

تستطيع في لبنان، أن تمس كل شيء، أن تهضم الحقوق، أن تمنع التنمية، أن تنهب في كل القطاعات، ولكنك لا تستطيع أن تمس الرأسمالية والرأسماليين وأتباعهم السياسيين والطائفيين.

مؤسف جداً، ما يحدث في اوروبا وبعض دول العالم. الديمقراطية التي تزاوجت مع المحاسبة والمساءلة والمعاقبة، تنسحب لصالح موجة شعوبية يمينية متطرفة.

مؤسف موت اليسار، بل مؤسف أيضاً موت يمين الوسط. مؤسف موت الاحزاب والعقائد. مؤسف أن نصير عراة وحفاة وجائعين في عالم تساوي فيه ثروة ثمانية ملياردير، ثروة نصف سكان الكرة الارضية.

ترى، من يدحرج هذه الكرة ذات يوم؟

لعل فتنة عظمى دولية تقع بين القوى الرأسمالية ذاتها، تفتح بعد الانهيار، نافذة على عالم، يُعيد الوزن للعدالة الاقتصادية.

إن ماركس لم يمت بعد.

 

Exit mobile version