طلال سلمان

ماذا يعلمنا القبر اللبناني؟

“القبر وحده، هو الذي لن يعلمني جديداً”. صح. نحن في القبر اللبناني، لا نتعلم جديداً. منذ مئة عام، والمفكرون والمناضلون والانسانيون والشهداء يتكلمون ويشيرون بأصبعهم إلى الافق. بئس التضحيات. لقد تكلم هؤلاء بالحبر والدم، ولم ينصت إليهم، حرّاس القبر اللبناني. تكلموا بصوت صادق. قالوا اشياء جميلة. حلموا بلبنان وطنا على قياس طموحاتهم المتواضعة: وطن فقط. مجرد وطن صغير، مجرد شعب واحد بألوان متعددة جميلة. عبث. لقد قيلت اشياء جميلة، لقد دفعت اثمان باهظة، من اجل فتات حلم. عبث. سمع الجميع ذلك. رأوا الدم نقياً ناطقاً. لكنهم مضوا دون أن يسمع أحد. كانت النتيجة، أن لبنان مبني على الرمل، بحراسة قراصنة، يقولون اشياء مغلوطة، مفضوحة، فاضحة، كاذبة، ملفقة… وصدَّقهم الكثيرون الذين يتناسلون من الفراش الطائفي، ويرضعون من ثدي أي امرأة او دولة، عابرة او مقيمة.

كأن لبنان بني على خطأ. كأنه أوكل إلى آحاد ما، ليتولوا حراسته في المشافي الطائفية، بهدف أن لا يشفى من خلاله. وكانت مهمة المشرفين على مرضه، التمسك بالمرض، لأن فيه شفاء لجشعهم وانتهازهم وتكالبهم. قادة لبنان المزمنين الاصحاء دائماً، قبضوا ثمن إبقاء لبنان سلعة تباع وتشترى، من غير اللبنانيين.

هذا الوارد اعلاه، يظلم لبنانيين، صدَّقوا أن لبنان وطنهم. شاؤوه ديمقراطيا، علمانياً، تقريباً، حلموا بوطن عادي جداً. تحصنه ثقافة المواطنة، لا تحشيشة التوافقية النفاقية الكارثية. حلموا، كالشعراء، ببلد يشمخ كالأرز ويعلو كحرمون وينبسط كموج البحر، ويغتذي من تراث وطموح، ويتقن فن السياسة النبيلة، التي تؤهل أي بلد ليعيش خارج القبر. لهؤلاء تحية الانكسار. لبنان محكوم بنهر العاصي. يعصى أن يكون وطناً. ولقد مضى زمن الرهانات.

“قادة لبنان” القدامى، و”قادته” الجدد المتناسلة من “القادة” القدامى. لم يرتكبوا جديداً ابداً. انه على سنة الانتهاز ورسله المرتزقة. هو جائزتهم التي دفعوا ثمنها ولاءات لدول وعصابات كيانات تافهة. لم يكن لبنان لبنانيا الا بالاسم فقط. أما اللبنانيون” ففي كل وادٍ اقليمي او دولي يهيمون. حكام لبنان، “الكبار” و”الصغار” ومرتكبي الكبائر والصغائر، ما كانوا ابدا لبنانيين. صراعاتهم، وفق العرض والطلب. تسوياتهم الذليلة، هي باتفاق خارجي يوقع عليه “القادة”، بثلاثين من الفضة. ويعودون بعد التسوية ليصلبوا لبنان على الركام، ويصلون كي لا يقوم من اسره الطائفي- الاقليمي كل التسويات التي حصلت، حبلت بها الدول الكاسرة، التي تبتغي حصة محرزة من جسد لبنان المنهك سياسيا، والمعروض علناً، وبالفم الملآن ، ليكون في معيات دول النفوذ الاقليمي والدولي.

هل تعرفون اليوم سبب بلائنا المتمادي؟ قبل الاجابة، الا تلاحظون أن التسويات الداخلية بين زعماء العصابات الطائفية قد سقطت بسرعة. “تسوية الطائف لم تسقط بعد، ولكنها مجمدة”. تسوية الميثاق سقطت لترثها تسوية الرياض. وتسوية قطر صمدت قليلاً، إلى أن… الخ. التسويات الإقليمية والدولية لها مكانتها. اما التسويات المحلية، فتسقط بسرعة مذهلة. تسويات الرئيس ميشال عون مع سمير جعجع سقطت بأسباب سخيفة. تسوية عون – الحريري، سقطت بسرعة، وتباعد السنة عن الموارنة أكثر مما مضى. تسوية مار مخايل صامدة، على مناعة ازاء الخارج، وعلى مناوشات دائمة في الداخل.

هذا ليس وطنا. ليس دولة. ليس مجتمعا. ليس يمت إلى العصر بصلة الديمقراطية والمواطنة والعدالة والمحاسبة والتقدم والاستقلال والتنمية.. نحن في ما دون الشرع القبائلي، في التحت، وما تحت التحت.

ألا تلاحظون انهم في كل وادٍ يهيمون. هو لبنان اليوم متروك من “اصدقائه القدامى” و “اعدائه الدائمين”. فها هو اليوم، كرقاص الساعة، إما يتجه غربا، والغرب له شروطه، اولها الركوع، وللشرق شروطه التي لا يستجيب لها فريق وازن في لبنان… وعليه، فان المرحلة ليست في أن يقلع لبنان شوكه بيديه، بل أن يزيد من عدد الاشواك الشائكة التي تمنعه من النجاة، وتحثه على السقوط.

لبنانكم أيها اللبنانيون، لم يكن وطناً وارتضيتم العيش فيه، إما انتهازا واما أملاً بإصلاح. ها هو امامكم. عبره سرقوكم. عبر مؤسساتهم، نهبوكم. عبر مصارفهم ذوبوا مدخراتكم. عبر مصرفهم المركزي، باعوكم بأرخص الاثمان. لبنانكم هذا سقط وما زال يسقط ولن يكتب له النهوض، على ايدي من سطوه وجيروه لهم ولسلالاتهم الطائفية والحزبية.

هل من أمل؟

طبعاً. بشرط أن لا تعتمر قبعات الافكار والشعارات. بشرط أن تعتمد على الاقدام القوية المتمردة والحرة، والتي ترسم بخطواتها مسار الثورة. لبنان لا ينقذه حراك راهن، بل ثورة في المستقبل. بشرط أن تبدأ مسيرتها الواضحة منذ الآن، والمطلب الذي يستميل اليوم، يسهل غدا: نريد بلداً مدنياً، علمانياً، ديموقراطياً، عادلاً، تلغى فيه الطائفية والزبائنية، وتسود فيه روح العدالة والمحاسبة، ليتسنى لهذا البلد الصغير، أن يتبوأ منصة الدفاع عن حقوقه، ويكون له دور رائد في المنطقة، بل دور قيادي، لأن لديه من القوة، ما يُتيح له أن يدافع عن نفسه ضد الاعداء. “اسرائيل” تخشى اليوم سلاح المقاومة. غداً، إن صار لدينا دولة، من يدري ماذا سيكون دور لبنان سياسياً واقتصاديا وثقافيا وعسكرياً؟

هل هذا مستحيل؟

في الظرف الراهن، لبنان راكع وقد ينبطح كلياً. في المرتجى، هو دولة صغيرة بقوة متعاظمة بشعبه ومؤسساته شرط أن يكون أولاً دولة ومواطنين.

Exit mobile version