طلال سلمان

مؤسسات يتجاوزها التاريخ

الفرصة متاحة نظريا ليجرب الاتحاد الأوروبي حظه فيحتل في المستقبل مكانة إحدى الإمبراطوريات الأوروبية العتيدة. هكذا راح تفكير أحد السياسيين الأوروبيين وفي نيته تحذير القائمين على قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل وباريس وبرلين من مغبة الطموح المتزايد إلى تحقيق الوحدة الأوروبية واقتراح سياسات أمنية ودفاعية واقتصادية تقرب هذا الهدف.

هؤلاء القادة في أغلب الحالات معذورون. إذ فجأة وجدت أوروبا نفسها بأبواب ونوافذ مشرعة لا تقوى حتى على غلقها في وجه أنواع شتى من رياح عاتية، ولا أقول، كما يقولون هم أنفسهم، وجدت نفسها بحدود برية وبحرية وأجواء لا تملك درجة مناسبة من القوة اللازمة لحمايتها من التهديدات الخارجية. عاشت عقودا مطمئنة إلى أن نظاما دوليا ثنائي القطب يتولى هذه المهمة وحربا باردة حققت لها استقرارا سياسيا وسلاما وأمنا لم تتمتع بأي منه لسنوات وربما لقرون عديدة. معذورون أيضا لأن دولا أوروبية غير قليلة العدد خرجت من عهود الشيوعية والضغوط السوفييتية تتوسل الانضمام إلى المشروع الأوروبي بأمل أن يفعل بها ما فعل مشروع مارشال الأمريكي بدول أوروبا الحليفة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. معذورون كذلك لأن التفاؤل الذي غمر أسواق أوروبا ومواقع القرار السياسي والاقتصادي في أولى سنوات عولمة الربع الأخير من القرن العشرين خلق التصور بإمكان أوروبا المشاركة في صنع رخاء عالمي وصياغة نظام دولي جديد في عالم خال من الشيوعية وزاخر بأفكار عن الرأسمالية والليبرالية. لا يغير كثيرا من واقع الأمر أن بعض هذه الأفكار كانت أقرب إلى عوالم الفانتازيا والخيال العلمي وأكثرها كان أبعد ما يكون عن الالتزام الاجتماعي ومكتسبات الإنسانية خلال القرون الأخيرة.

لم يخطئ كارل شوارزنبرج السياسي التشيخي حين حذر قادة الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت من خطر الانجرار وراء حلم أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى هيكل إمبراطوري مثل إمبراطوريات القرن التاسع عشر. فهمت قصده وإن متأخرا. أراد أن يذكر المسؤولين عن قيادة أوروبا الجديدة بالنهاية الأليمة لإمبراطورية النمسا نتيجة امتناع قادتها عن تحديثها وتطويرها على أسس عصرية فتحجرت وانفرطت. إن ما نشهده الآن من تغيرات سياسية وتشنجات وانفراطات ومظاهرات في بعض الدول الأوروبية يعزز ما انتهى إليه أحد تقويمات الاتحاد الأوروبي، هذه المظلة التي تجتمع في ظلها أمم كثيرة بثقافات ولغات وروايات تاريخية متباينة. انتهى التقويم إلى أن قادة الاتحاد لم يفكروا بتعمق واجب في ضرورة تحديث هياكله لتتناسب مع التغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية في أوروبا والعالم.

شاخ الاتحاد الأوروبي، شاخ حتى قبل أن يشب عن الطوق، شاخ وشاخت معه مؤسساته وأفكاره الوحدوية. شاخت أيضا أحلامه وظهرت منافسة لها أفكار شابة، قومية الطابع، قومية بمعناها الضيق أي المعنية بوطن محدد المعالم والحدود وله تاريخه المميز. شاخت في الاتحاد الأوروبي هياكل ومؤسسات وأفكار تماما كما شاخت قبل مائة عام هياكل ومؤسسات ومنظومة القيم في الإمبراطورية النمساوية، شاخت ولم تجد من يطورها ويحدثها فتفككت واشتعلت بسبب انفراطها حرب عالمية.


في ظني أن نساء ورجال الدولة في المملكة المتحدة كانوا واعين في عام 1975 إلى أهمية أن يشاركوا في حلم أوروبا الموحدة فربما تحقق فعلا وبدونها. نجاح المشروع الأوروبي كان يعني توازنا للقوى مختلفا كل الاختلاف عن التوازن الذي انكبت الاستراتيجية البريطانية على صياغته وتنفيذه على امتداد القرن التاسع عشر ومن خلال توظيف مكانة وقوة الولايات المتحدة قائد الحلف الغربي في الحرب العالمية الثانية ومن بعدها. عاشت بريطانيا تراقب من موقعها الجغرافي خارج القارة توازن القوى الأوروبي وتمنع اختلاله لصالح دولة أوروبية دون أخرى. وعندما قامت السوق المشتركة وسعى القائمون عليها إلى اندماج أقوى وتكامل أسرع حاولت بريطانيا وضع العراقيل في طريقها. ثم انضمت حين شعرت هي والولايات المتحدة أنها من الخارج لن تتمكن من التأثير في السياسات والنزاعات الأوروبية. الآن هي تخرج لأنها، مثل أمريكا وروسيا، تدرك أن المشروع الأوروبي مهدد بالانفراط تحت ضغوط خارجية وبخاصة من روسيا البوتينية وأمريكا الترامبوية وضغوط داخلية وبخاصة من الأعضاء الجدد، دول شرق ووسط أوروبا. مهدد أيضا تحت ضغوط الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمسك بخناق أغلبية الدول الأوروبية. من ناحية أخرى كانت الإشارات الكثيرة الصادرة من واشنطن في أعقاب حرب الخليج وتعقيدات الحرب الأفغانية تلمح إلى الرغبة في التخفف من أعباء المسؤولية عن الحلف الغربي.


يحملون الرئيس ماكرون جانبا من المسؤولية عن تمرد الدول الأعضاء من شرق أوروبا. نذكر كيف كانت السيدة ميركل هدف المتمردين في اليونان وإسبانيا وإيطاليا والآن تغيب سيدة أوروبا متدرجة في الأداء والقيادة بينما يحاول ماكرون، مرتديا ثياب سيد أوروبا المشارك، سد فراغ كبير في منصة القيادة في الاتحاد الأوروبي. يبدو أنه في محاولته هذه صار يبالغ. يقول آندريه بابيس رئيس وزراء تشيكيا “ماكرون يتكلم أكثر مما يجب عن أوروبا”، ويقول جون كيجر الأستاذ بجامعة كامبريدج “نعم ماكرون يثير حفيظة أمم شرق ووسط أوروبا وإيطاليا”. واضح لهم فيما يبدو ولي هنا على الأقل أن حملته ضد الشعبوية القومية إن صح التعبير غير ناجحة بل لعلها السبب وراء التصعيد الذي تشهده الحروب الكلامية في الساحات الأوروبية التي تستعد لانتخابات البرلمان الأوروبي، وهي الانتخابات المقرر إجراؤها بعد أسابيع قليلة.

يأمل بعض عقلاء أوروبا في التوصل إلى صيغة تضمن للإدارة التنفيذية في الاتحاد مزيدا من النفوذ لتحقيق درجات أعلى من الاندماج وتضمن في الوقت نفسه سلطات أوفر للبرلمانات القطرية، بمعنى الاهتمام الجاد والحقيقي بتطلعات ومشكلات الشعوب وحقها في الاستمتاع بالسيادة التي يعتقد القوميون الشعبويون أنها سلبت من الشعوب. سلبتها نخبة سياسية وحدوية تهيمن على مصائر أوروبا وتسيطر على هياكل ومؤسسات الاتحاد الأوروبي. أتصور أننا ربما نشهد خلال الشهور المقبلة صدامات سياسية عديدة وصريحة بين تيارات أوروبية بعضها يجد دعما مباشرا ومؤثرا من كل من إدارتي الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. يجب أن لا ننسى أننا ما نزال نعيش تجربة مثيرة في تطور فنون وقواعد السياسة والحكم، تجربة تمارس في الدولتين الأعظم بل في الدول الثلاثة الأعظم إن صح التعبير وصدق التصور. إنها تجربة إعادة بناء الدولة على أسس غير احترام القانون وتوازن السلطات. يبدع كل من بوتين وشي حتى صارا رمزا يحتذى لقوى وتيارات وقيادات شعبوية في جميع أنحاء العالم. ولسنا غافلين عن حقيقة أنه صار لترامب بالذات شعبية داخل قطاعات رأي ومصالح في داخل أمريكا يستطيع في أي وقت دفعها لإثارة مشكلات واضطرابات في حال وجد نفسه محاصرا بالقانون والدستور.


قادة أوروبا مطالبون من شعوبهم اليوم وليس الغد بأن يعيدوا النظر في هياكل وسياسات المشروع الأوروبي بهدف تحديثه وليناسب تناقضات العصر والتغيرات العميقة التي طرأت على مجتمعاتهم. أظن أننا، هنا في مصر وخارجها في شتى أنحاء العالم العربي، لا نتجاوز حدود المسموح أو منطق الأشياء إذا طالبنا القادة من السياسيين والمفكرين أن يعيدوا هم أيضا النظر في هياكل ومؤسسات وجوهر المشروع العربي. هؤلاء القادة هم الآن ربما كانوا في حاجة إلى التشاور فيما بينهم لاتخاذ قرار بالتوجه جمعا إلى ميدان التحرير في العاصمة المصرية واقتحام مبنى جامعة الدول العربية. هناك يعتصمون لساعات وياحبذا لأيام ولا يتركون إلا بعد أن يقرروا بالإجماع، إن أمكن أو بالأغلبية إن تعذر الإجماع، إن الجامعة لم تعد تناسب العصر. فليعلنوها اعترافا أو اكتشافا صريحا ضمن صرخة مدوية أن هذه الجامعة العربية تخلفت لأن العصر تجاوزها. تجاوزها أيضا ما طرأ على مفهوم الأمة ومفهوم القومية ومفهوم الحكم الذي صار حكما رشيدا ومفهوم الأمن وبالذات الأمن القومي ومفهوم الإنسان بعد أن نبتت له حقوق ومفهوم فلسطين بعد أن تداول فيه من لا يحق له التداول في ساحات العدل والشرف ومفهوم الدين بعد أن لحق بسمعته الدنس من نساء ورجال لا يفقهون ومن باعة سلاح وحروب يتجولون ومن أصنام سكتت طويلا ونطقت كفرا. هذه المنظمة الإقليمية القومية تجاوزتها سباقات الأفيال في صعودها نحو القمة والهجرات العربية الواسعة نحو المجهول، تجاوزتها قرارات وسياسات احتلال الفضاء ومن هناك تحمى الأوطان، تجاوزها الانتقال الفعلى للاعتماد على الذكاء غير الطبيعي بديلا لذكاء الإنسان أو مكملا، تجاوزتها في كل مكان حركة الشعوب معلنة استعدادها استئناف دورها وواجبها مشاركة في صنع مستقبلها.

فليعتصم القادة بمقر الجامعة العربية الكائن بميدان التحرير بالعاصمة المصرية حتى يقرروا أن جامعتهم لم تعد تناسب العصر ويقترحوا البديل وبعدها يرحلون كل إلى عاصمة بلاده في أمن وأمان.

تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق

Exit mobile version