طلال سلمان

لو كنت عونياً

صعب أن اكون. الكتابة تخونني. التجربة تستحق المجازفة. انا، أخاف من الانزلاق والكذب. المطلوب أن اكون صادقاً وصائباً. مطهراً من عدائية سابقة ونظرة احادية ومقارنة ظالمة او متساهلة.

حذرت قلمي من الشطط والنزق. قلت: ليكن الكلام موزونا ومتوازناً وغير معتد. ممنوع أن تنجرف مع صياح ونقد وتطاول. فليكن كلامك أيها القلم متشحاً بالحشمة والاحترام.

صعب أن اكون. فأنا منتمٍ اصلاً. علماني بجدارة الممارسة. سلالتنا احتضنت جميع المذاهب. الفراش الزوجي نامت فيه كل الطوائف. أحفادنا، موارنة، وسنة وشيعة وأرثوذكس وكاثوليك ولاتين وارمن ارثوذوكس. كل هذا من دون منة ولا تمييز. فكيف اكتب، ورصيدي محروم من السلالات الدينية والمذهبية؟؟؟ علمانيون، عقلاً وعقيدة وممارسة، فكيف وماذا اكتب عن “تيار” معين انه الاقوى عدداً ومواقع؟

قلت، بعد تردد، تجرأ واكتب بعقلك، وقيّد مشاعرك واحكامك المسبقة، وخاطب ابناء شعبك بلغة المساءلة، وليس بقسوة المحاسبة. يلزم أن تضع قلمك العصبي جانباً. هؤلاء ابناء شعبك، فأنت منهم ومعهم في بلد واحد، كنا نظن انه سيكون وطنا لنا… ما أقسى ما بلغناه. الجحيم تحت اقدام اللبنانيين.

ابدأ من النهاية. لست بصدد التاريخ ابداً. انا شفيعي في الفكر والسياسة والاجتماع، توما الرسول. الاقوال اقوال وليست افعالاً. اريد أن اضع إصبعي في جراح يسوع كي أومن. بلا الاصبع أفقد ايماني. لذا، ابدأ من النهاية، فهل هذا هو التيار العوني؟ لا أجزم. انما اظن أن هناك فارقاً كبيراً بين عونية زمان مضى، وعونية هذا الزمان.

اسأل كأي مواطن هادئ، او داوى نفسه بالمهدئات: أهذا هو التيار العوني؟ اوجه الشبه بين العونية الراهنة والعونية السالفة معدومة، هذه لا تشبه تلك.. نتذكر أن الاصلاح كان عنوانا مركزيا. نؤكد أن شعار التغيير كان فاعلا، فصدقناه، برغم صعوبة المهمة واستحالتها. نؤكد على أن العلمانية مرت مراراً في الخطب والتصريحات، انا موقن أن محاربة الفساد كانت ركيزة نضالية… ظننا ذهب إلى ابعد من ذلك: “لبنان الحقيقي جايي”.

هاتِ اصبعك يا توما وضعه على الجرح. تقدمت مثله، فما وجدت جرحاً. لا أثر لذاك الرهان. غاب عن بالي قليلاً يوم صدقت علمانية الجنرال. لا صلح البتة بين العلمانية والطائفية. اجتاحت الطائفية النصوص والنفوس. العلمانية براء. لا تتمورن ولا تتشيع ولا تسنن ولا تدَّرز. العلمانية مقام، والطائفية بنت وضيعة سقيمة وسخيفة ومنحطة. لا تجوز مقارنة العلمانية بالطائفية. ولا تسيران جنباً إلى جنب. ولذا، ازيحت العلمانية لصالح مارونية “مفترسة”، “منتقمة”، “فجة”، للتعويض عما خسرته المارونية في زمن الحرب وفي الحقبة السورية وفي اوقات التغّول السني والشيعي والدرزي. والطوائف بطون لا تشبع…

كان متوقعا من الجنرال أن يخوض معركة العلمنة ضد هذه الحقبة المدنسة والمفترسة. لا. فضل أن يدخل الحلبة مثلهم، ويمارس الانتزاع والافتراس والانتقام واللاعدالة، فقط من اجل تأمين المناصفة… ولقد حصل ذلك بنسبة عالية من التوتر والقرف. انتصف لبنان. ذئاب تناتش ذئاباً. وتحوَّل لبنان إلى مسلخ طائفي، ترك الناس ليعودوا قطعانا من الموارنة وقطعانا من السنة وقطعانا من الشيعة وقطعانا من الدروز.

هل هذه هي العونية؟ لقد كنتُ غبيا عندما صدقت بسذاجة التواضع، أن الجنرال العلماني، سيخوض معركة الانتقال من اللا دولة، لأن لا دولة مع الطائفية، إلى الدولة بركيزتها الأم، بحجر الزاوية: المدنية او العلمانية.

لقد قتل الجنرال العلمانية في البداية، غابت عن مفردات الخطاب العوني النزق. وحلّت محلها شعارات الاصلاح والتغيير… لا ضرورة لمحاسبة الأقوال. الاقوال تنتمي إلى علم الديماغوجيا. بالفعل، لم يحصل لا اصلاح ولا تغيير ابداً. وكلما ارتفع صوت الاصلاح، انهار قسم متداع من النظام والسياسة، وكلما تعالت مطالب التغيير، تفاجأنا بأبشع عمليات الابتزاز والقنص والاحتلال. لم ينجح التيار في أي مؤسسة. لا أصلح ولا غيَّر. احتَّل. انه قوة احتلال.

كنت اقيم له مكانة خاصة. كنت أقول انه لا يشبه عتاة الطغمة السياسية التي ورثت السلطة من زمان، وحكمت في الظل الاسرائيلي، ثم في الظل السوري، ثم تحت كل الحمايات. تبين لي في ما بعد، انه تشبه بهم ولم يتشبهوا به. لأنه بدل أن يغير، تغيًّر هو وتياره. نسج اتفاقات وتفاهمات وتسويات مع شياطين السياسة المزمنين. وبذلك تحوًّل لبنان إلى جحيم. مات الاصلاح وعاش الانتهاز. مات لبنان وعاشت الطوائفية. مات التغيير وعم الفساد. ماتت الوعود، وذقنا طعم الفقر والمذلة بعدما ادخل لبنان في مغاور لصوص المصارف، التي لم ترشق بوردة.

ثم.. ما قصة الكهرباء. لا يمكن لعاقل أن يصدق براءة العونيين في هذه الكارثة. نصف انهيار لبنان، يعود إلى النزف الكهربائي، بإدارة عونيين. هذا لا يعفي الطوائفيين الآخرين، كلهم يعني كلهم، لأنهم مشاركون في صفقة سرقة لبنان واللبنانيين.

أود أن أسأل السيد الرئيس، أن كان يمارس الرئاسة من دون وشوشات الاقرباء والأبعداء. هل هذا هو لبنانك الموعود؟ لا نعفي محاسبتك في ممارسة الزبائنية. ولكن الرئاسة والعونية مسؤولة عما آلت اليه جماهير اللبنانيين، من كل الطوائف، من فاقة وفقر وبؤس وغضب وعنف.

تأمل أيها السيد الرئيس لبنانك بصفاء صباحي. هل هذا هو لبنانك. لو كنت مكانك، بالطبع كمواطن فقط، للبطت هذا اللبنان وقزفته بوجوه من تحكم به على مدى ربع قرن.

لا عفو عن المشاركين من زعماء الشيعة والدروز والسنة والموارنة. كلهم يعني كلهم مشاركون. يبقى، بعد انهيار المصارف والوزارات والصناديق والادارات والمستشفيات والطرقات والليرة و… وكل شيء يبقى الجيش اللبناني وهو جيش يعيش على “الرجيم ” الاكراهي، ومع ذلك تستعملونه ليكون ضد الناس. هذا الجيش ليس جيشكم بل جيشنا، وتحاولون دائما ايكال مهمة القمع لشعبه ومهمة حراسة آلهة الفساد والافساد.. حلّوا عن هذا الجيش الذي تضطهدونه ليضطهدنا.

أخيراً.

لو كنت عونياً، لكتبت هذه الرسالة بلغة أقسى وادانة أوضح. التزمت الحدود الدنيا من لياقة الكلام. ولولا احترامي لقلمي ولمقام الرئاسة، لقلت كلاماً جميلاً ومقنعاً، مستقى ن قاموس الغضب الشعبي والفاظه النابية المعبرة.

لو كنت عونياً، لقلت: العونية انحرفت انحرافاً مريعاً. صارت العونية عصبة عائلية ومن بعض المنتفعين. أما من زال يؤمن بالعونية، فليكن العون معه. وله مني كل احترام، لأنه يصدق المشروع الاصلاحي التغييري العلماني اللبناني ، ولا يريد أن يصدق أن ما يحصل هو بسبب قياداته…

نصيحة لخصوم العونيين من الطوائف: اخرسوا. أنتم مثلهم إن لم تكونا اسوأ منهم.

العونية ظاهرة عبرت. الباقي منها بؤس الختام. لم يكن ذلك رهان العونيين الذين أحبوا الجنرال أكثر من حبهم للبنان.

هل قسوت؟

طبعاً.

كان لا بد من ذلك.

لماذا؟ لأن العونيين ورثوا وساهموا في دولة معتلّة ومهلهلة، وقد يتم توريث اللبنانيين دولة ميتة. علامات النزع الاخير نعيشها. فلبنان في قعر لا قعر بعده. اننا نودع وطناً كان منذوراً لحياة مديدة.

Exit mobile version