طلال سلمان

لهو وكذب في ذكرى ناكازاكي

قضى الرأي العام العالمي أسبوعا حافلا بالجزع والسخرية؛ الجزع من أن تتكرر مأساة ناجازاكي فيبعث الطرف الكوري بقنبلة نووية لتنفجر فوق جزيرة في المحيط الهادي تابعة للولايات المتحدة أو على مدينة من مدن الساحل الغربي لأمريكا، أو الجزع من أن تلقي الطائرات الأمريكية بقنبلة نووية على مدينة بيونج يانج أو غيرها من مدن كوريا الشمالية، قنبلة أقوى تأثيرا وأحدث صنعا من القنبلة التي ألقتها الطائرة الأمريكية على ناجازاكي قبل اثنين وسبعين عاما، هذا عن الجزع.

أما السخرية فكانت لأن الناس في كل مكان، حتى من شعر بالجزع، راح يسخر من منظر رجلين يتصرفان كطفلين. طفلان لا تخفي سمنتهما حال الرفاهة التي يعيشان فيها ولا تخفي أجهزة الإعلام اهتمامها بهما تدليلا لهما أو استفزازا ولا تخفي اللعب المفروشة أمامهما أبعاد المهزلة، مهزلة مؤسسات دول تسمح لشخصين مثبت عدم لياقتهما العصبية وعدم اتزانهما أن يلهوا بصواريخ جاهزة الإطلاق وقنابل نووية معدة للانفجار. لا يمكن أن يحدث هذا إلا في عالم غير منضبط ويفتقد القيادة.

***

قرأت أن هنري كيسنجر اقترح على إدارة ترامب التوصل مع الصين إلى اتفاق على مستقبل كوريا الشمالية قبل الدخول في أي عملية تفاوض مباشر مع هذه الأخيرة. أفهم من اقتراح كيسنجر، لو صدقت الأنباء، أن الصين لا يمكن أن تطمئن إلى نوع الاتفاق المزمع التوصل إليه بين الأمريكان والمسؤولين في كوريا الشمالية وكذلك للشروط التي سوف يحاول كل طرف إقناع الطرف الآخر بتلبيتها أو إجباره عليها مالك تكن موجودة في المفاوضات. الصين طرف ثالث مهم؛ مهم إلى درجة القدرة على إجهاض أي اتفاق يتوصل إليه الطرفان ولا يحظى بموافقته. تريد الصين، بدون شك كبير، أن تتأكد من أن الاتفاق ينص على رحيل القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية حاملة معها ذخيرتها النووية. قد تقبل بقاء قوات بسيطة العدد والعدة ولكن في قواعد بعيدة عن خط الهدنة.

***

كثيرون أثاروا قضية الشبه بين حال المفاوضات الدولية (الأمريكية غالبا) مع إيران والمفاوضات المزمع إجراؤها مع كوريا الشمالية. يكاد الشبه في رأيي ينعدم فالصعوبات والظروف أشد تعقيدا والمخاطر عديدة؛ مخاطر مرحلة التفاوض ومخاطر ما بعد التوصل إلى اتفاق. نلاحظ مثلا مركزية عنصر عدم اطمئنان الصين وأمريكا إلى بعضهما البعض. إيران لم تمس هذه المركزية فالصين كانت طرفا ثانويا في المفاوضات الدولية الإيرانية بعكس الوضع في أي مفاوضات مع كوريا الشمالية. هذا الاطمئنان لن يتوفر بين ليلة وضحاها ولا بين سنة وأخرى أو بين عقد وعقد آخر. نقص الاطمئنان سوف يبقى دائما عقبة أو على الأقل يمثل صعوبة غير عادية، لأن الصين دولة عظمى صاعدة، وفي صعودها قد تضطر إلى تحريك أمريكا مع نفوذها شيئا ما قليلا أو كثيرا عن مسارات الصعود.

***

من ناحية أخرى لا أظنه غائبا عن ذهن المفاوض الأمريكي احتمال أن يفضي الاتفاق مع الصين حول مستقبل كوريا الشمالية إلى تضخم في مكانة الصين ونفوذها في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، وأن هذا التضخم سوف يكون على حساب مكانة أمريكا ونفوذها. أتصور أن نموذج الاتفاق الإيراني مقبول لدي الصين من حيث المبدأ بشرط أن تجري المفاوضات الامريكية الكورية في حضور الصين وبشروطها. تعلم الصين، حسب فهمي، أن ترامب لن يقدم على مفاوضات بصفة عاجلة مع الكوريين لأنه ما زال يعتبر الاتفاق الإيراني صفقة خاسرة، لذلك لن يقدم على صفقة مماثلة قبل أن يعد قاعدته الشعبية لها ويجد المبررات الكافية. وفي كل الاحوال لن تتحمس الصين لمفاوضات صعبة وحساسة حول كوريا قبل أن تنتهي جلسات المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني، وهو المؤتمر الذي يفترض أن يجدد للرئيس تشي ويدخل تغييرات مهمة في مناصب القيادة السياسية التي سوف تتحمل مسئولية تحقيق “الحلم الصيني”.

***

لا أستبعد في حال طالت مدة الإعداد والإقناع لعقد مفاوضات مع كوريا الشمالية أن تكون روسيا قد غيرت موقفها وقررت أن تشارك. المهم الآن للروس أن يثبتوا وجودهم في الشرق الأوسط جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة، أو منفردين إن تعثرت الخطى الأمريكية نتيجة تخبط البيت الأبيض في ظل قيادته الراهنة. روسيا تبدو راضية عن حماسة العسكريين الأمريكيين للتعاون مع العسكريين الروس في أفغانستان والعراق وسوريا، وربما في ليبيا في المستقبل القريب. كوريا بعيدة الآن عن الهموم والطموحات العاجلة لروسيا، ولكنها ليست مستبعدة تماما من الاستراتيجية التوسعية لروسيا.

***

لكل من الطرفين، الأمريكي والكوري الشمالي، رؤيته الخاصة عن العالم. والرؤيتان متضادتان تماما. كوريا الشمالية ثمرة حرب مقاومة شنها الكوريون ضد الاستعمار الياباني على أرض الصين. هناك نشأت أسطورة عائلة كيم. دولة اشتغلت بالمقاومة فكرة وتحشيدا على مدى مدة استقلالها. قاوموا الطائرات الأمريكية التي دمرت جميع مدن وقرى كوريا الشمالية في الحرب التي شنتها أمريكا بإذن الأمم المتحدة على كوريا الشمالية. الجدير بالذكر أنه في ذات اليوم التي ألقت فيه الطائرة الأمريكية قنبلتها فوق ناجازاكي فدمرتها تدميرا، طلب جون ماكلوي من اثنين من صغار الدبلوماسيين الأمريكيين وهما دين راسك وزميل غير معروف، الاجتماع في مكتب من مكاتب وزاررة الدفاع للتفكير معا في خطة لتقسيم شبه جزيرة كوريا. اجتمع الشابان وخرجا بفكرة أن يكون الخط الفاصل بين كوريتين هو خط عرض 38. بعد ثلاثة أسابيع بالضبط رست بواخر أمريكية على شواطئ كوريا ونزل منها 25.000 جندي وفي اليوم التالي لوصولهم تشكلت أول حكومة عسكرية في العاصمة سول. حدث هذا في عام 1945، ونشبت الحرب التي دمرت كوريا الشمالية في 1950.

***

الكوريون الشماليون أداروا كافة شؤون بلادهم، ومنها التفاوض إن حدث، بذهنية المقاومة ضد العدوان الأمريكي. من وجهة نظري لا أتوقع اختلافا كبيرا بين أسلوب إدارة الصينيين لعلاقاتهم مع الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام ورحلة كيسنجر وإقامة علاقات رسمية وبين ما أتصوره أسلوبا لإدارة كوريا الشمالية لمفاوضاتها مع الولايات المتحدة وعلاقاتها بها في المستقبل. لا ثقة متبادلة بين طرفي العلاقة ولا اطمئنان إلى النوايا وسوف تبقى مشهرة على امتداد مرحلة التفاوض وربما بعدها شعارات المقاومة لأمريكا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version