طلال سلمان

لم تأتِ هذا العام

نشرت في “السفير” في 3 كانون الأول 2008 ونعيد نشرها اليوم في ذكرى وفاته.

لم أتذكرك كثيرا هناك. لم أشعر أن المكان خاو، لم أفتقدك.

لم يملأ الفراغ الذي خلفته شيء.

أنت لم تكن تأتي كل عام أصلا. كنت تختفي كثيرا، طويلا، ثم تعود كلماتك لتدوي فجأة في ما نحياه.

كنت أحب غيابك، وأتمنى سراً أن يطول علّ كلماتك، عندما تعود، تكون أكثر.

غِب وغُبّ مما حولنا ما تشاء ثم أنثره في وجوهنا شعراً. أعد تذكيرنا بلون عيوننا، واكشف ما نجيد دفنه بين طيات القلب.

لم يطل غيابك بعد. وأنت دوماً تتريث في الحضور.

موعد معرض الكتاب مقرر سلفاً في تشرين من كل عام. أنت تحب الخريف. وأنت تحب بيروت. لم تأت هذا العام. حسناً. مجرد خيبة صغيرة أخرى تضاف إلى خيباتنا اليومية.

ثم أنك في العام الماضي أطلت البقاء. قرأتَ من شعرك، ووقعت كتبك، وجلست في أيام أخرى في جناح الريس تدردش مع أصدقاء ومارة. لا يليق بمن هو مثلك أن يطيل البقاء. أن تقف هكذا بين الناس فيعتادون وجودك.

ثم أنه لم يعد هناك من يقرأ. ربما يتفوق كتاب الطبخ على مجموع كتبك في المبيع هذا العام. ألم تمض الأعوام الأخيرة تنافس كتاب طبخ؟ كان ذلك قبل أن تبدأ كتب الأديان في منافستك أنت والطبخ معاً. لم يعد لك مكان هنا.

***

جلستُ أرضاً أنظر اليك توقع كتبك. هل كنت، في تلك المرة، تعرف أنك لن تعود؟ ألذلك أطلت البقاء قليلا؟ أتحسسك بن الفينة والأخرى كأني اريد التثبت من وجودك. “انتِ، امشِ من هنا، هيا”، تقول لي ممازحا ثم تستعيد وجهك “الجدي” كلما اقترب قارئ بيده كتاب يريدك أن توقعه. كنت تجلس بظهرك المستقيم فتبدو أطول من كل المارين من حولك. العابرون يلمحونك فجأة فتلمع عيونهم وينحنون نحو مرافقيهم ويهمسون: “هذا محمود درويش”.

نجم وحيد بين كتب مستهلكة في معرض مترهل، في مدينة منهكة، في بلاد تضيق يوماً بعد يوم. نقطة نور تستقطب الأنظار والقلوب، تجلس بظهرك المستقيم وعيناك تريان كل شيء من دون أن تنظرا لشيء محدد. يأتيك “مثقفو” لبنان المنفتحون جديداً على وجع فلسطين، يقفون من حولك بوضعية “الأصدقاء” الذين لا يواجهون منافسة. يدردشون في ما بينهم، ولا ينظرون الى من حولهم. يلفتون الأنظار بملابسهم الباهظة وحليهم وعطورهم. من حولهم يلتف أحياناً أبناء المخيم.

هؤلاء كانوا يأتون مرتدين أفضل ملابسهم، ويبدون مع ذلك غرباء وسط حشود الدار. “دار الريس” عند مدخل المعرض. يدخل أبناء المخيم ويرون وجهك، فتضاء وجوههم. أينك تصف الفخر والحياء اللذين كانوا يحاولون إخفاءهما وهم يتقدمون نحوك؟

لم يكن معظمهم يحتاج لشراء كتبك. كانوا يحفظون أشعارك عن ظهر قلب ما إن تصدر من هناك، من رام الله أو من عمان.

لمن يأتون اليوم في المعرض؟ أينك تكتبهم، لمن تتركهم؟ لم تأت هذا العام. مجرد خيبة صغيرة. أنت تختفي دوما، تعد كلماتك جيداً قبل ان تعود.

***

صورك تملأ المكان. عيناك لا تنظران إلى أحد. ها أنت شاب هنا، وناضج هنا. تلقي أشعارك، تحرك يديك. رقم بطاقتك خمسون ألفاً؟

كنت جالساً هناك، وأنا أسألك: “أي كتاب أشتري كي توقعه لابنتي؟ من بين كتبك كلها، ما هو الكتاب الذي تفضل أن توقعه لابنة الرابعة حتى تقرأه عندما تكبر؟”. تنظر إلي وتسأل: “أي كتاب؟ لماذا تركت الحصان وحيداً، طبعاً”.

لماذا طلبت منك أن توقع كتباً لكنده؟ أنا لم أكن أشعر أنك لن تعود، في ذهني كان مجيئك هو بداية. بداية مرحلة عودتك دورياً إلى بيروت التي أُقصيت عنها دهراً. بداية استئناف حياة انقطعت وأنا طفلة. أردتك أن توقع كتاب كنده كي تصبح المسألة برمتها خلفنا. كي لا يأتي يوم أندم لأنك لم توقع كتاباً لكنده.

لم تأت هذا العام. مجرد خيبة صغيرة. لم يعد هناك من يقرأ أصلاً.

بعد قليل، سيعود كلامك ليدوي من عاصمة ما. لا؟

بعد قليل تكبر كنده، وتقرأ شعرك، وتعيد قراءته، ثم تهدي نسختها الموقعة بخط يدك لابنتها وتقول لها: “بين هذه الكلمات، ستجدين نفسك”.

Exit mobile version