طلال سلمان

للحب مسالك وعرة

غابت سنوات وعادت. عملنا معا لفترة غير قصيرة، أنتجت في عملي خلالها أكثر وأحسن مما انتجت في فترات مماثلة سبقت وجودها معي أو جاءت بعدها. عرفتها خبيرة في الناس بعيون فاحصة وقلب نابض بالرحمة والحب. باحثة قديرة تعرف عن النساء وطباعهن قدر ما أعرف وتعرف عن الرجال أكثر مما أعرف أو يعرف غيري. كانت تزعم أن علم الاجتماع فقد بعض هويته حين سخر جل وقته والمنح المتاحة لفهم كل صغيرة أو كبيرة تتعلق بالمرأة، وعندما أشبع نهمه لم يحاول فعل الشيء نفسه مع الرجل. ما نزال قاصرين عن فهم الرجل. ما نزال نناقش ونختلف حول آدم في الجنة وما فعل هناك مع حواء ونناقش، ولا نختلف، حول ما فعلته حواء بآدم وبنفسها وبنا جميعا.

•••

اتصلت ذات صباح باكر تسألني إن كنت أحن إلى فنجان قهوة معها في مكانها الذي فضلته على غيره كلما ضاقت بها سبل حل مشكلة غير عادية. مكانها المفضل مقهى في فندق وسط النيل ومائدة بمقعدين على نقطة عند الطرف الأقصى للمقهى تتوقف عندها أي حاجة لنادل أو زبون متطفل. بعدها مياه النيل. رحبت بي بوجه خلته على غير العادة عابسا. لم أسأل. جاءت القهوة فصبت منها في فنجاني حتى أشرت عليها بالتوقف. اعتذرت وعادت إلى خصلة من شعرها تلفها على أصبعها ثم تطلقها ليداعبها نسيم النهر علامة حيرتها أو ارتباكها. احترمت صمتها بصمت من جانبي. شعرت بهاتفي يرتعش في جيبي طالبا استجابة مني. كتمت الرعشة ففي هذا الصمت، صمت الطبيعة وصمتنا، يحدث أحيانا أن يصبح للرعشة صوت.

صدق حدسي. وصلتها الرعشة فانتبهت. جددت قهوة فنجاني وهي تعتذر. قالت “اعتذر عن حال أعرف أنها لا تسرك. واعتذر عن دعوتك لتشاركني في البحث عن حل مناسب لقضية حساسة أخشى أن تتفاقم. ليست المرة الأولى التي ألجأ فيها لك ولن تكون الأخيرة. كعادتي أصبر وأحاول حل المشكلات وحدي، وإن تعقدت المشكلة أو فشلت في حلها أحملها واذهب بها إليك أينما كنت. تذكر، وكنت وقتها في مهمة بمدريد، أني ذهبت إليك أحمل طفلي الرضيع ومعي زوجي نعرض عليك تفاصيل أزمة أوشكت على هدم ما بنينا وكنت أنت نفسك أحد أهم البنائين. هذه المرة جئت بك لنحاول معا حل مشكلة تزداد تعقيدا مع مرور يوم جديد عليها، مشكلة لا تخصني مباشرة. تخص رفيقة الروح والقلب.     

“تذكر يوم تعارفنا. تذكر أنه كانت برفقتي صديقة قدمتكما لبعضكما باعتباركما أهم وأقرب الأصدقاء وأقربهم إلى قلبي وعقلي.  طبعا لن أنكر إن ما قلته يومها لا يزال ينطبق عليكما. أنتما فعلا الأهم والأقرب. هي وأنا نشأنا في بناية واحدة وذهبنا إلى الحضانة نفسها والمدرسة ذاتها وتخرجنا من نفس الجامعة. افترقنا لتحب وتتزوج. أحبت بكل جوارحها. أحبت كما لم يحب إنسان شخصا آخر. تزوجا بعد فترة خطوبة قصيرة وأنجبا طفلة ولدت جميلة وكبرت رائعة وفاتنة. لم أعرف صديقتي على هذه الدرجة من السعادة مثلما عرفتها في تلك الأيام. صدقني إن قلت أن هذه السعادة كانت بالنسبة لي التعويض المناسب لافتقادي صاحبتي. 

“تعرف أنني سافرت بعيدا. غبت فترة طويلة. لم تنقطع الرسائل المتبادلة بيننا. الموضوع الثابت في الرسائل كانت أحوال وجمال ابنتها وذكائها وسجلها الراقي فى مختلف مراحل التعليم. المتجدد بيننا، صديقتي وأنا، كان زواجها. لسوء حظها وحظ ابنتها مات الزوج في حادث وابنته لم تتجاوز عامين. كانت الصدمة مريعة. فالزواج كان عن حب قوي. انتهى الزواج  واستمر الحب ونضجت الثمرة. نصحتها بالزواج، بعد سنوات قليلة من العيش بدون رجل في البيت، زوج لها وأب لابنتها. أعرف تعليقك. تبقى المرأة من النوع المحافظ بدرجة ما رهينة تقاليد تخلفت من فرط رمزيتها وطول قرون جمودها. على كل حال كانت صديقتي أقرب مني إلى فكرك حول هذا الموضوع. لعبت صديقتي كل الأدوار، دور الأم، دور الطرف العائل، دور الأب، دور المدرس الخاص، دور المرافق في المشاوير للملاعب الرياضية والطبيب المعالج والحفلات الساهرة، دور المستمع باهتمام، دور المبشر والداعية والمربي، كله في أسلوب تناسقت أدواته بحكم الزمن وتبدلت صياغاته بحكم التطور وتشبكت مفاهيمه بحكم  نضج الوعي والجسد وازهرت مضامينه بحكم ارتقاء عواطف الابنة وغلبة رهفها.

•••

“عدت من الخارج. صرت تقريبا طرفا ثالثا في بيتهما. بيت كله حب. الابنة تخرجت قبل عام من عودتي. تقول أمها أنها رجعت من حفل التخرج وابنتها تحمل في يد شهادة تفوقها وفي اليد الأخرى رجل متوسط العمر وصفته بأنه يمكن أن يصبح حبيبها والمرشح ليكون رجل المستقبل إن هو أحسن التصرف ونال ثقتها وحبها. ثم تعرفت إلى زوج صديقتي. أظن أنني لم أقابل في حياتي، وهي مليئة كما تعلم بالرجال المتميزين صورة وخلقا، رجلا حاز قبولي ثم إعجابي منذ اللحظات الأولى مثلما  حصل لهذا الرجل، زوج صديقتي. لم أنم ليلتها إلا بعد أن كلت المديح تلو الإعجاب تلو السعادة للرجل بعد أن استأذن ليقضي أمرا ضروريا على الهاتف وبقينا لساعة أو أطول، صديقتي وانا وابنتها وحدنا، نتحدث. الأم أضافت من معاشرتها الرجل أطنانا من عبارات الحب ومشاعره. الابنة صارحتني، أثناء لحظة غابت فيها الأم في غرفتها، أنها أخيرا عرفت معنى أن تعثر فتاة في عمرها على أب. قالت أيضا كيف أنها تشكر أمها طول الوقت على انتظارها الطويل وتفرغها لها بينما مثل هذا الرجل يدق بابها لسنوات عديدة طالبا الاقتران بها. وقالت أنها سمعت الكثير عن الحب فوق ما يبدو أنه بدايات له في حياتها الخاصة، ولكنها لم تعرف أنه ممتع ومفيد ومنعش ومغير للحال إلا عندما راقبت تصرفات أمها منذ أن أعلنت عن وجود هذا الرجل في حياتها ودعته ليتعرف على ابنتها. وقالت أيضا أنها تأكدت في لحظة التعارف وما سمعته من أمها أن هذا الرجل يستطيع وبكل الرضا من جانبها أن يمارس معها دور الأب. دور قالت أنها لم تسمح لأحد أن يمارسه معها منذ أن وعت أنها ستعيش  طفلة بدون أب. هي تعرف عن أن للرجال أدوارا شتى اقتربت منها جميعا مرات عن بعد ومرات عن قرب إلا دور الأب. وفي النهاية، وقبل انضمام أمها إلينا خفضت صوتها وقالت كم ظالم يعيش بيننا ولا يعلم أي ظلم ارتكبه بدون وعي. أنا ظلمت أمي حين حرمتها من هذا الرجل النادر خلقا وشكلا ورقة وعطفا.

•••

“عدت أجد السلوى ليال عديدة في الأسبوع في صحبة صديقة عمري وبخاصة بعد أن أضافت إلى باقتنا ابنة رائعة ورجلا شيق الحديث وواسع التجربة. ارتحت للصحبة في شكلها وحجمها الجديد. عادت أيامي بهيجة وممتعة وعائلية المزاج والمعاشرة. كنا نسهر نلعب ألعاب الكومبيوتر أو الورق وأحيانا الشطرنج أو النرد، ومعنا أحيانا صديق الابنة وكان حبيبها قبل شهور، وهي الصفة التي استخدمتها صغيرتنا عندما قدمته لأمها أول مرة. كانت لنا جلسات سياسية ندعو إليها من يفهم في السياسة أو من يساعدنا على التمييز بين الحقيقي والزائف فيما نسمع أو نقرأ. ومعنا صديق الابنة يأتي أحيانا كانت متقاربة قبل أن تتباعد شيئا فشيئا. بعد شهور وربما سنة أو أكثر بدأ ارتياحي لجلستنا يتراجع. فكرت مليا أن أدعوك للانضمام إلينا فتجدد فينا حماستنا وتعيد إلينا أرواحا كانت وثابة أو هكذا كنت أنوي حفزك للانضمام. أعرف الآن أنني شئت أن تكون معي تخفف عني قلقا وإن صحت ظنوني تدقق في سبب ارتيابي.

•••

“لاحظت يا صديقي تغيرا في الابنة الرقيقة الناعمة. صارت مع الأيام أكثر ورعا وتدينا. لاحظت عليها أيضا شرودا متواترا ومتزايدا. وبعد أن كانت أكثرنا حيوية انخفض نشاطها. كانت أسرعنا في الإجابة عن لغز أو في حل معضلة، فصارت الأبطأ والأكثر ترددا. لم تكن في حاجة لملهم أو وحي لتبدع وتسبق، صارت تنظر إلى زوج أمها تستلهم الحل أو الاجابة من قسمات وتفاعيل وجهه. مرارا وتكرارا لمحتها ساهمة لثوان وعيناها معلقتان بفمه تريده أن ينطق، تريد صوته، تريد حركة منه. ليلة بعد ليلة أراقب شيئا ما يتطور أمامي وأنا عاجزة عن لم شمل كل ما يصدر عنها من كلمات وتصرفات في خلاصة واحدة. بدأت أحس بلهيب يسبق خطرا زاحفا.

•••

“نقلت التركيز من الابنة العزيزة إلى الزوج الناعم. انطباعي الأول أن لا تغيير بالمرة في صوته أو في تصرفاته أو كلماته التي كان دائما يختارها بعناية. خفت، أقولها بصدق ولكن بحذر، خفت أن يكون البيت الذي كان مفعما بالحب في كل ركن من أركانه، يكاد يلفظ هذا الحب، أو فلنكن صرحاء مع أنفسنا، يكاد حب آخر أو حب من نوع آخر ينازعه أو جانبا منه ليزيحه ويحل محله. ظل الرجل يذهلني بتهذيبه أو لعله بحبه القديم والثابت والعميق غافل عن التحول الهائل الذي تمر فيه الابنة الرائعة التي تبناها عن صدق وحب أبوي. الأم بروحها المعلقة بابنتها التي هي سبب وجودها في هذه الدنيا، وفي الوقت نفسه  معلقة بزوجها، هدية السماء لها بعد طول حرمان وتضحية، هذه الأم عزلتها ملائكة الرحمة عن تفاصيل التحول الحادث في قلب ابنتها وفي مجمل عواطفها وشجرة مشاعرها.

***

“صديقي، استغيث بك، وما أكثر ما استغثت بك. أكرر ما سبق ورددت مرارا. أحب هذه العائلة حبا جما وأنت تعلم تاريخ هذا الحب ونوعه علم يقين. تراني الآن وأنا وسط دوامة من الخوف أن أخطئ في كلمة أو أسيء تصرف أو أفقد زمام التحكم في  معالم وجهي حين أخاطب أحدا منهم . أخاف أتغيب يوما فيفوتني عمقا جديدا لوضع يتدهور. أخاف أضعف فأتحمل مسئولية انفراط عائلة أحبها وأحب كل فرد فيها على حدة. أخاف أقوى فأمد يدي لانتشل فردا أو آخر قبل السقوط فأعجل بالدمار.  أخاف أتعامل مع أنواع حب لا أعرفها.

ساعدني فأنت أدرى مني بوعورة هذه المسالك الحساسة”.            

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version